سورة البقرة ٢: ١٥٨
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}:
سبب نزول الآية: أخرج البخاري عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- ، أنه سُئل عن الصفا والمروة، فقال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما جاء الإسلام، أمسكنا عنهما، فأنزل الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}.
{إِنَّ}: حرف مشبه بالفعل، يفيد التّوكيد.
{الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}: من شعائر دين الله، جبلان (في مكة)، داخل المسجد الحرام الآن، كانت هاجر زوج إبراهيم -عليه السلام- ، تسعى بينهما؛ للبحث عن الماء لولدها إسماعيل، وظلت تتردد بينهما سبع أشواط، ثم وجدت الماء ينبع تحت قدَمي إسماعيل -عليه السلام- .
{شَعَائِرِ اللَّهِ}: جمع شعيرة: وهي العلامة؛ أي: النُسك؛ أي: أعمال الحج والعمرة والمشاعر: جمع مَشْعر وشعائر الحج، هي معالمة الظاهرة للحواس، ومواضع العبادة، يطلق عليها المشاعر؛ أي: المعالم المكانية، مثل: الصفا والمروة. ومقام إبراهيم والحجر الأسود.
{فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ}: الفاء استئنافية من شرطية.
{حَجَّ الْبَيْتَ}: الحج لغة: القصد.
شرعاً: قصد البيت الحرام؛ لأداء مناسك الحج المعروفة، ومنها: لباس ثياب الإحرام، والخروج إلى منى، والوقوف بعرفات، والنزول إلى مزدلفة، ورمي الجمرات، والطواف، والسعي، والحلق.
{أَوِ اعْتَمَرَ}: أدَّى مناسك العمرة، فلا جناح عليه؛ أي: لا إثم عليه من جنح؛ أي: مال عن القصد؛ أي: الإثم: للميل عن الحق، فاعتبر ذلك إثماً، ولم يقل حرجاً أي: ضيقاً، أو مشقة.
ولم يقل: ليس عليه جناح، والفرق بينهما: لا جناح عليه: جملة اسمية، والجملة الاسمية أقوى من الجملة الفعلية؛ لأنها تدل على الثبوت، ومؤكدة، وأما الجملة الفعلية فتدل على التجدُّد، ولذلك نجد القرآن، يستعمل {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} في العبادات، والحقوق، والواجبات الزوجية، وتنظيم الأسرة، بينما يستعمل: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ}: في الأمور العادية؛ كالطعام والشراب والبيع والشراء، ولذلك النفي في {لَا جُنَاحَ}: أقوى من النفي في قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ}.
أن: حرف مصدري؛ للتعليل، والتوكيد: {يَطَّوَّفَ بِهِمَا}: أصلها يتطوف، أدغمت التاء في الطاء؛ لقرب مخارج الحروف، وقال يطَّوف بالتشديد، ولم يقل: يطوف بهما؛ لأن يطَّوف بالتشديد فيها معنى الحث والإكثار من السعي والطواف، وتكرار ذلك، بينما يطوف، من دون تشديد؛ يعني: السعي بين الصفا والمروة سبع أشواط، وتبدأ بالصفا.
السّؤال هنا: لم قال تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ} مع أنّ الصفا والمروة من شعائر الله؟
كما روي عنه الطبري: أنّ وثناً كان في الجاهلية على الصفا، يسمى إسافاً، ووثناً على المروة يسمى نائلةً، وكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت، مسحوا بالوثنين، فلما جاء الإسلام، وكسرت الأوثان، قال المسلمون: إن الصفا والمروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنين، وليس الطواف بهما من الشعائر، قال: فأنزل الله أنهما من الشعائر؛ أي: فلا حرج على المسلمين في السعي بينهما؛ لأنهما من شعائر الله.
وبما إنا لا ندور حول الصفا والمروة، كما نعمل بالبيت الحرام، فلماذا سماها طواف؟!
سماه (طواف): لأنّ السعي تبدأ من نقطة بداية، وهي الصفا، ثم الذهاب إلى المروة، ثم العودة إلى الصفا، فذهابه، وعودته يشبه الطواف الذي يبدأ بالحجر الأسود، ثم يعود إليه.
{وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا}: {وَمَنْ}: شرطية. {تَطَوَّعَ}: فَعلَ الطاعة، طوعاً لا كرهاً، والزيادة على الواجب؛ أي: أدَّى الحج والعمرة عدَّة مرات، فالحج والعمرة لأول مرة، يعتبر فرضاً، وبعد ذلك تعتبر تطوعاً، والتطوع يعني: الإكثار من النوافل، ويعني: طوعاً بحب، وليس كرهاً.
{فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}: الفاء وإن: للتوكيد، {شَاكِرٌ}: أي: مثيب العبد على طاعته، يقبل العمل القليل، ويعطي الثواب الجزيل عليه.
{عَلِيمٌ}: صيغة مبالغة من عالم، محيط علمه بأعمال عباده، من فرض ونفل، وظاهر وباطن، وسر وعلن، وخير وشر.
لنقارن بين هذه الآية والآية: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} البقرة: ١٨٤.
هنا التطوع في هذه الآية، آية الصّيام، هو أن يزيد في الفدية، فيطعم أكثر من مسكين، أو يزيد في المبلغ المصروف له.
بينما في آية الحج والعمرة: آية (١٥٨): التطوع في حج آخر أو عمرة، والدليل على ذلك زيادة الواو في قوله: {وَمَنْ تَطَوَّعَ}؛ فلذلك في آية الحج، أتبعها بقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}؛ أي: يثيبه الله ويجازيه على إحسانه، والشكر يعني الثواب، والثواب يكون بقدر الطاعة، والحج والعمرة أشق من الفدية بالطعام.