سورة البقرة ٢: ٧
{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}:
{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}: الختم؛ يعني: السد، والإغلاق، والخاتم هو ما سُدَّ به، وأغلق به، والختم على القلب؛ يعني: بأن لا يدخله أي إيمان، ولا يخرج منه أي كفر.
وشبه القلب، هنا؛ بالوعاء، يمكن سده وإغلاقه، فلا يدخله نور الإيمان، ولا يخرج منها كفر، فقلوبهم كالأوعية، الّتي أبت عن الحق، واستمرت على ذلك، فختم عليها.
وأسند الختم إلى ذاته تعالى على قلوب هؤلاء الكفرة بعد أن تمادوا في كفرهم وبلغوا أقصى غاياته وابتعدوا عن الحق، فلم يعد ينفعهم الإنذار أو عدمه.
فهم الّذين ختموا على قلوبهم، وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم بأنفسهم، وهم الّذين اختاروا ذلك على الإيمان، فتركهم الله سبحانه؛ لما اختاروا، وتخلى عنهم.
والطبع أشد من الختم، وأقوى، وأشمل، ولا يفك أبداً، والذي يطبع على قلبه، يُفقد الأمل منه في غالب الأحوال، إلَّا من رحم الله، وأما الذي يختم على قلبه، فقد يختم على قلبه، ولا يختم على سمعه، وبصره، فقد يكون هناك بريق أمل في عودته إلى الإيمان.
وقدَّم القلوب على السمع؛ لأنّ السياق في الآيات، يتحدث عن القلوب المريضة {فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}.
{وَعَلَى سَمْعِهِمْ}: الختم على السمع؛ يعني: تعطلت عندهم حاسة السمع، عن سماع الحق، وما ينفعهم لآخرتهم، فهم لا يستمعون لأي آية، ولا لأي موعظة، أو إنذار، رغم أنهم يسمعون الكلام العادي، وآذانهم ليس بها مرض عضوي، هم الذين اختاروا أن يسدُّوا آذانهم، وختموا عليها، فأذن الله تعالى لهم ذلك.
{وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}: الغشاوة؛ هي الغطاء، والستر، وأبصارهم جمع بصر، والبصر؛ يشمل العين، والبصيرة.
والبصيرة: منطقة بالدماغ، هي الّتي تدرك، وتفكر، وتقوم بالرؤية القلبية، {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}؛ جملة اسمية، تفيد الدوام، والثبات؛ أي: على أبصارهم غشاوة منذ البداية؛ فهم لم يسبق أنّ أبصروا (من البصيرة).
بينما قوله تبارك وتعالى: {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} الجاثية: ٢٣، جملة فعلية، تدل على التجدد، والتكرار، فهذا كان مبصراً قبل تردي حالته.
وإذا قارنا آيات سورة البقرة: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}؛ بآيات سورة الجاثية (٢٣)، {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ}.
نجد أنّ آيات البقرة؛ جاءت في سياق من هم أشد كفراً وضلالاً؛ من الكفار المذكورين في آيات سورة الجاثية.
وقدَّم القلوب في آية البقرة؛ لأنّ السياق في الحديث عن القلوب المريضة، والختم على القلب؛ أهم من الختم على السمع والبصر.
وأما في الجاثية؛ فالسياق في السمع لقوله: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ}.
{وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}: تمنع وصول الضوء؛ أي: نور الإيمان، والنظر في آيات الله تعالى، وما أنزل، نظرة تبصر، واتعاظ.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}: ولهم: اللام لام الاستحقاق، والاختصاص العذاب العظيم، هو أشد أنواع العذاب على الإطلاق، مقارنة بكل أنواع العذاب، فهو يشمل الأليم، والمبين والشديد، والمقيم.
وتكرار كلمة {عَلَى} ثلاث مرات: {عَلَى قُلُوبِهِمْ}، و {وَعَلَى سَمْعِهِمْ}، و {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ}، يفيد التّوكيد، وكذلك لفصل واستقلال كل أداة عن الأخرى، فالختم قد يحدث لواحدة منها، أو أكثر، وهنا الختم أصاب الكل؛ القلب، والسمع، والأبصار.
وقوله تعالى: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ}: أفرد السمع، وجمع البصر، ولم يقل: ختم على أسماعهم، إنما قال: سمعهم.
لأنّ السمع؛ مصدر جنسي، لا يجمع، ولكن الأذن، تجمع بآذان، آلة السمع.
ولأنّ أسماعهم تسمع نفس الآيات، والأنباء، وما يخبرهم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فالذي يسمعونه، هو نفس الكلام، والذي يختلف هو أبصارهم، وقلوبهم، فكل فرد يرى، ويبصر، ويفكر، بطريقته الخاصة. ولمعرفة سبب تقديم السمع على البصر، ولمزيد من البيان، راجع سورة هود آية (٢٠)، وسورة الملك (تبارك) آية (٢٣).