سورة البقرة ٢: ٢١٩
{يَسْـئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَّفْعِهِمَا وَيَسْـئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}:
{يَسْـئَلُونَكَ}: عن تعاطي الخمر والميسر، ارجع إلى الآية (١٨٩) من سورة البقرة.
{عَنِ الْخَمْرِ}: وسمِّيت خمراً؛ لأنها تخامر العقل؛ أي: تخالطه، وتستره، وتغطيه، وسواء كان عصير العنب المتخمر، أم الشّعير، أم التّمر.
{وَالْمَيْسِرِ}: أي: القمار مثل ضرب الأقداح، والأزلام، والنّرد، وسمِّيت بالميسر المأخوذ من اليُسر؛ لأنّ صاحبه ينال المال بيسر وسهولة من غير تعب.
{قُلْ}: يا محمّد -صلى الله عليه وسلم-.
{فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ}: ما هو هذا الإثم الكبير لم يُبين في هذه الآية، ولكنه يبينه في آية أخرى، وهو إيقاع العداوة، والبغضاء بين النّاس، والصّد عن ذكر الله، وعن الصّلاة، كما قال في المائدة، آية (٩١): {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ}.
الإثم: الذّنب، والإثم لا يحدث إلَّا تعمداً، والإثم لما يجره من فساد العقل والمخاصمة، وتعطيل الصّلوات، الكبير: العظيم. ارجع إلى سورة الأعراف آية (٣٣) للبيان.
{وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}: المنافع المادية، والاقتصادية من ربح، والضّرائب المفروضة عليها الّتي تفوق التّصورات البشرية، ومنافع جمع منفعة؛ أي: المال.
{لِلنَّاسِ}: اللام: لام الاختصاص، النّاس: ارجع إلى الآية (٢١) من نفس السورة لمزيد من البيان.
{وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَّفْعِهِمَا}: عقاب الإثم في تعاطيهما، أكبر من نفعهما: وهو التّلذذ بشرب الخمر، أو النّفع المادي؛ أي: الرّبح من صناعتها، أو بيعها، والميسر، وما يحققه من الرّبح من دون أي جهد.
والآن نستعرض الأربع آيات الّتي وردت في سياق تحريم الخمر الّذي تم على مراحل أربع:
ـ الآية الأولى: من سورة النّحل، آية (٦٧):
{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
وهذه المرحلة الأوّلى كان المسلمون يشربونها، وكانت حلال يومئذٍ.
ـ الآية الثّانية: من سورة البقرة (٢١٩):
{يَسْـئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَّفْعِهِمَا}.
وهذه المرحلة الثّانية بعد نزول هذه الآية تركها قوم لقوله: {إِثْمٌ كَبِيرٌ}، واستمر البعض الآخر في شربها.
ـ الآية الثالثة: من سورة النّساء، آية (٤٣):
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}.
نزلت كما أخرج الترمذي وأبو داود بعد أن صلَّى أحد الصّحابة بالناس في صلاة المغرب بعد أن شرب الخمر فقرأ: «قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون»، فكانت هذه المرحلة الثّالثة: حُرم شربها في أوقات الصّلاة، واستمر بعضهم في شربها بعد صلاة العشاء وغير أوقات الصّلاة.
ـ الآية الرّابعة: في سورة المائدة، آية (٩٠-٩١):
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}.
نزلت هذه الآية بعد غزوة الأحزاب بأيام، فقال الصّحابة عند نزولها: انتهينا يا رب.
{وَيَسْـئَلُونَكَ}: نرى هنا زيادة الواو، وفي الآيات السّابقة لم تستعمل الواو، وتعليل ذلك هو أنّ السّؤال في الآية (٢١٥) كان في زمن، والسّؤال في الآية (٢١٧) كان في زمن آخر، ولم يستعمل الواو.
أمّا الأسئلة الّتي في الآية (٢١٩)، والآية (٢٢٠، ٢٢٢)، فكانت كلها في آن واحد واستعمل فيها الواو.
{مَاذَا يُنْفِقُونَ}: ارجع إلى الآية (٢١٥).
{قُلِ الْعَفْوَ}: قالوا العفو: ما يزيد عن الحاجة الّتي يحتاجها الإنسان، وأهله، وكان ذلك قبل فرض الزّكاة، والعفو يقصد بها نفقة التطوع، قل العفو: هذا يدل على المقدار، أو الكم، أو الجزء.
انظر إلى ترابط الآيات التالية:
الآية (٢١٥): {يَسْـئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} (ما نوع الإنفاق)، فجاء الرد: {قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ} (أي: مال، أو ما شابه).
وعلى من ننفق؟ فجاء الرد: {فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}.
والآية (٢١٩): {وَيَسْـئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} (أي: ما مقدار الإنفاق والكم؟): {قُلِ الْعَفْوَ}، ثم بين ذلك بقوله: {وَفِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} المعارج: ٢٥-٢٦؛ تشمل الزكاة والصدقات.
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ}: الكاف: للتشبيه، فليس هناك تكرار في السّؤال؛ أي: مثل ما بُين لكم الآيات السّابقة، أو كما فصل لكم هذه الأحكام وبينها وأوضحها، كذلك يُبين لكم سائر الآيات في الأحكام الأخرى.
{لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}: لعلكم تتفكرون: من التفكر: وهو النظر في الدلائل، والتأمل والتثبت وإعمال العقل في المقارنات والمعطيات للوصول إلى الحكم أو الحكمة؛ أي: لتتفكروا في أمور دنياكم، وآخرتكم، فتؤثرون الأنفع والأصلح لكم على الفاني والداني، في النجاة من النار، وجنات النعيم على عذاب الخلد، ورضوان الله تعالى على سخطه وغضبه، وثواب ترك الخمر والميسر على تعاطيهما.