سورة الأنبياء ٢١: ٧٩
{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}:
{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}: الفاء للتعقيب والمباشرة، فهمناها: الهاء تعود على الخصومة أو الدّعوى، فهمناها سليمان: خصَّ الفهم بسليمان والفهم هو تصور المعنى، أي: الإدراك الخفي للمسألة أو العلم بمعاني الكلام أو فطنة + علم، والعلم هو الإدراك سواء كان خفياً أو جلياً، أي: كلّ فاهِم لا يعني أنّه عالم وكلّ عالم هو فاهِم.
{وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}: وكلاً أيْ: داود وسليمان آتيناه حكماً وعلماً، حكماً: القدرة على حل الخصومات والقضاء في الدّعوى، وحكماً من الحكمة: الفهم وتدبر الأمور، وعلماً: علماً بأمور الدّين والفتوى والقضاء.
فكلاهما آتيناه حكماً وعلماً، فلا يظن أحد أنّ داود أقل علماً أو حكماً من ابنه سليمان، وما توصل إليه سليمان لا يقدح في ما توصل إليه داود، فالإنسان يمكن أن يخطئ في الاجتهاد، فمن اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد.
فقد روى البخاري في صحيحه عن عمر بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) وعلى الحاكم أو القاضي التّريث والنّظر في الدّعوى أو القضية من جميع جوانبها، وأنّ لكلّ حاكم أو قاض حكماً مبنياً على علمه وما توافر له من أدلة.
ولكل من المدَّعِي والمدَّعَى عليه حقٌّ، أو مشروعية الاستئناف، والنّقض في الحكم.
ثم بيَّن الله سبحانه طرفاً مما آتاهما الله تعالى إضافة إلى الحكم والعلم فقال:
{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ}: وسخرنا من التّسخير وهو قهر المسخر، أو تذليله على فعل شيء، أو أمر لا يستطيع رفضه، وسخرنا: بصيغة الجمع للتعظيم. الجبال: يسبحن: وكما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَىْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} الإسراء: ٤٤.
{وَالطَّيْرَ}: يسبحن وكلّ الحيوانات تسبح بحمد ربها.
وفي سورة ص الآية (١٨) ذكر لنا زمن التّسبيح فقال تعالى: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِىِّ وَالْإِشْرَاقِ}، وقدَّم الجبال على الطّير؛ لأنّ تسخير الجبال وتسبيحها من عجائب القدرة الإلهية الّتي قلَّما يفكر بها العقل البشري المنحرف عن تسبيح الله تعالى في معظم الأوقات، فهذه الجبال الرّواسي، أو الكائنات الّتي يظنها الإنسان أنّها جمادات هي تفوق الكثير من البشر في عبادتها، وقد تكون أشرف من هؤلاء الّذين جحدوا بخالقهم وأنكروا تسبيحه، وتقديمها على الطّير؛ لأنّ الطّير من جنس الحيوان.
{وَكُنَّا فَاعِلِينَ}: أيْ: قادرين على فعل هذا وغير هذا فلا يعجزنا شيء، وفيها معنى التّوكيد للتسخير.