سورة البقرة ٢: ٢٤٩
{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّى وَمَنْ لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّى إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}:
{فَلَمَّا}: الفاء: تدل على التعقيب، والمباشرة، وتدل أنّ طالوت لم يتأخر في الخروج للجهاد، ومعه جنوده.
لما: ظرفية، حينية، تتضمن معنى الشرط.
{فَصَلَ}: خرج، وغادر، وكلمة فصل من الفصل، وهو العزل أن تزل شيئاً عن شيء آخر، ومثلها: فلما فصلت العير؛ أي: غادرت.
{طَالُوتُ بِالْجُنُودِ}: أي: غادر بلده بالجنود جمع جندي، وجنود: فئة من الناس تدربوا للقتال، ومفروض فيهم القوة، والغلظة، والصبر، ولم يذكر عددهم؛ لعدم الأهمية، وهناك فرق بين جند وجنود؛ ارجع إلى سورة ياسين آية (٢٨) لمزيد من البيان.
{قَالَ إِنَّ}: للتوكيد.
{اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ}: قال ابن عبّاس -رضي الله عنهما- وكثير من المفسرين: هو نهر الأردن المسمى بالشريعة.
{مُبْتَلِيكُم}: مختبركم، والابتلاء: هو الاختبار، والامتحان، والابتلاء: قد يكون في الخير، والشر.
وقال: إن الله مبتليكم ولست أنا؛ أي: إنه هو الله الّذي سيجري عليكم الابتلاء؛ لمعرفة مدى طاعتكم لأمره، وقوله: إن الله مبتليكم، ولم يقل: أنا مبتليكم أقوى حافزاً على خوض الابتلاء من أنْ لو كان ابتلاءً من عند طالوت.
وما هو هذا الابتلاء: كونهم عطشى، وأمامهم الماء، ويجب أن يمتنعوا عن الشرب منه إلَّا كما يوصيهم طالوت.
{بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّى وَمَنْ لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّى إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ}:
فمن شرب من النهر فهو عاص لأمر الله (إذا شرب كما يريد، ولم يطع الأمر).
ومن لم يشرب فهو مطيع لأمر الله، وإن شرب غرفة بيده هذا مباح، وهو مؤمن ومؤهل للجهاد في سبيل الله، فهو خارج في سبيل الله، والطعام، أو الشراب ليس هذا نيته، بل نيته حمل راية الجهاد.
ونرى هنا: أنه سبحانه استبدل كلمة يشرب بقوله: يطعمه، ويطعمه من الطعام، والطعام يشمل الغذاء، والشراب، والشراب يتناول لوحده، أو مع الغذاء.
ويبدو أنّ الشراب (وهو الماء) كانوا بحاجة ماسة له، فهو قد قام مقام الطعام، والشراب معاً؛ فهو رخص لهم الماء الممزوج بالطعام؛ أي: الماء القليل.
وكذلك رخَّص لهم الغَرفة بالإضافة إلى يطعمه؛ ليزيل عنهم العامل النفسي في حبِّ الشرب.
{فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ}:
هذه كانت هي النتيجة: فشل الكثير في الامتحان، الكثير شرب من النهر، كما يشاء، ولم يسمع إلى قول الله تعالى، ويفوز بالابتلاء.
{إِلَّا}: أداة استثناء.
{قَلِيلًا مِّنْهُمْ}: والقليل لم يشرب، ولم يعص، وفاز بالابتلاء، وهم الّذين آمنوا معه.
{فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}:
{فَلَمَّا}: الفاء: تدل على المباشرة، والتعقيب؛ أي: استمر طالوت، والّذين آمنوا معه في سيرهم.
{جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ}: أي: عبر طالوت، والبقية الّذين آمنوا النهر.
{قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}: أي: مجرد أن رأى الّذين آمنوا جالوت وجنوده وعددهم وعدتهم قال قسم منهم، وهم ضعاف الإيمان، ومن خاف: لا طاقة لنا (لا مقدرة لنا)، والطاقة: أقصى المقدرة، وتختلف عن القدرة، أو القوة التي يتمكن بها المرء من أداء الأمور؛ لا طاقة لنا اليوم على جالوت وجنوده، وأما القسم الآخر الّذين آمنوا الإيمان الصادق، ولم يخافوا قالوا:
{قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}:
{قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ}: أنّ مصدرية، تفيد التّوكيد، وانتبه إلى هذه القاعدة في القرآن: إذا قرن الظن بأنّ أفادت اليقين؛ أي: أصبح الظن بمعنى العلم، واليقين.
قالوا للذين خافوا وقالوا لا طاقة لنا بجالوت وجنوده: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة، أو قالوا ذلك محدِّثين أنفسهم ليبثُّوا روح الجهاد والشجاعة بينهم فلا يخافوا.
{كَمْ}: هنا الخبرية، وتفيد الكثير، فقد روي عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- : أنّ الّذين آمنوا مع طالوت، وظنوا أنهم ملاقوا ربهم، وقالوا: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} كان عددهم يقارب عدد أهل معركة بدر (٣١٤) مؤمناً.
{مِنْ}: ابتدائية.
{فِئَةٍ قَلِيلَةٍ}: العدد، والعدَّة انتصرت.
و {غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً}: العدد والعدَّة، وفئة جاءت بصيغة التنكير الّذي فائدته، أو غرضه التكثير، والتعظيم، ولمعرفة تعريف الفئة؛ ارجع إلى الآية (١٣) من سورة آل عمران.
{بِإِذْنِ اللَّهِ}: الإذن: اسم للكلام الذي يفيد إباحة فعل أو قول، وبإذن الله تستعمل للعمل الّذي ليس لنا فيه تدخل، أو إرادة، أما لو قال: إن شاء الله: فهي تستعمل للأمور الّتي لنا تدخل فيها، وصادرة على إرادتنا.
{وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}: يمدهم بعونه وينصرهم على عدوهم.