سورة الحج ٢٢: ٧٨
{وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِى هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}:
{وَجَاهِدُوا}: الجهاد نوعان:
١ - في الله: ويشمل جهاد النفس، والشيطان، والهوى، والظلم.
٢ - وفي سبيل الله: ويعني: القتال قتال الأعداء.
{فِى اللَّهِ}: في: للتعليل، في الله: خالصاً لوجهه؛ أي: من أجل رضاه ومعرفته حق المعرفة.
{حَقَّ جِهَادِهِ}: أي: جهاد النفس وكبحها عن المعاصي والوقوع فيه؛ جهاد الطاعة، طاعة أوامر الله واتباع الأخلاق الحميدة، ويشمل الجهاد لمعرفة الله، والعلم بأوامره وأحكامه أقصى ما استطعتم وكما أمركم وبيّن لكم، وتشريفاً لهذه الطّاعة، ولا ننسى جهاد النّفس والهوى هو الجهاد الأكبر.
{هُوَ اجْتَبَاكُمْ}: (هو) ضمير فصل يفيد التّوكيد، يعود على الله.
اجتباكم: اصطفاكم لدين الإسلام واتباع ملة إبراهيم.
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}: الحرج: يعني الضيق والمشقة في أيّ تكليف لا تقدرون عليه، (من) استغراقية تستغرق أيّ حرج مهما كان. ارجع إلى سورة البقرة، آية (٢٨٦) للبيان.
{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}: شريعة إبراهيم -عليه السلام- ، وهل إبراهيم هو أبَ هذه الأمة، نحن نعلم أنّ إبراهيم هو أبو إسماعيل، وإسماعيل -عليه السلام- هو جد الرّسول، فيمكن القول: إنّ إبراهيم هو أبو هذه الأمة، وكما نعلم أنّ إبراهيم هو أبو الأنبياء الّذين جاؤوا بعده.
{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ}: (هو) ضمير فصل للتوكيد تعود على الله سبحانه، هو الّذي سمّانا المسلمين من قبل في الكتب السّماوية السّابقة، أو في الأمم السّابقة، أو من قبل نزول هذا القرآن.
{وَفِى هَذَا}: (في) ظرفية، (هذا) الهاء للتنبيه، (ذا) اسم إشارة للقرب؛ أي: وفي هذا القرآن سمّاكم المسلمين أيضاً ـ كما قلنا ـ هو يعود إلى الله سبحانه وليس إبراهيم؛ لأنّ الأفعال السّابقة المذكورة في هذه الآية كلّها راجعة لله تعالى؛ لقوله: (هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدّين من حرج)، أمّا من قال: إنّ الضّمير يرجع إلى إبراهيم: قول ضعيف، رجّح ذلك بحجّة أنّ الضّمير يرجع إلى أقرب مذكور؛ أي: إبراهيم.
{لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ}: ليكون الرّسول محمد -صلى الله عليه وسلم- شهيداً عليكم: اللام لام التّعليل، شهيداً عليكم: ولم يقل شاهداً عليكم، الشّهيد: صيغة مبالغة مقارنة بالشّاهد، ولذلك سمّى ربنا نفسه بالشّهيد. الشّاهد: يرى الشّيء أو الحادثة فيشهد بما يراه ويسمعه فقط، ولكن لا يعرف الملابسات والأسباب أو غيرها، أمّا الشّهيد: هو أكثر علماً من الشّاهد؛ يعلم خفايا الحادثة وكلّ صغيرة أو كبيرة. شهيداً عليكم؛ أي: على أمته شهيداً في الآخرة؛ أي: أنّه بلّغهم شرع الله، أو يشهد على أعمالهم.
{وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}: شهداء للأنبياء على أممهم يوم القيامة أنّهم قد بلّغوا رسالات ربهم، فيقول الله للأنبياء أو يقال لهم: من يشهد لكم؟ بعد أن تكذّبهم أممهم، فيقولوا: محمّد وأمته. فتقول الأمم: كيف عرفتم؟ فيقولون: علمنا ذلك بإخبار الله سبحانه لنا في كتابه وعلى لسان نبيه محمّد -صلى الله عليه وسلم- فإذا أخبرنا الله سبحانه في القرآن بشيء، يكون أفضل مما لو رأيناه بأمِّ أعيننا أو رأيناه بعين اليقين.
{عَلَى النَّاسِ}: وليس شهداء للناس، (على) تعني الفوقية على أعمالهم الّتي سيُحاسبون عليها سواء كانت أعمالاً صالحة أو سيئة، وأمّا شهداء للناس؛ أي: تشهدوا لخير النّاس فقط، وهذا غير صحيح.
كما روى أبو سعيد الخدري عن النّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يجيء النّبي يوم القيامة ومعه الرّجل، ويجيء النّبي ومعه الرجلان، ويجيء النّبي ومعه أكثر من ذلك، فيقال لهم: أبلغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال للنبي: أبلغتهم؟ فيقول: نعم، فيقال: من يشهد لك؟ قال: محمد وأمته، فيشهدوا أن الرسل قد بلغوا… إلى نهاية الحديث الّذي أخرجه البخاري والإمام أحمد والتّرمذي والنسائي وابن ماجه.
{فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}: يعود سبحانه إلى ذكر الصّلاة مرة أخرى، ففي الآية السّابقة قال: (يا أيها الّذين آمنوا اركعوا واسجدوا) كناية عن الصّلاة، فأقيموا الصّلاة بأركانها وشروطها وسننها، وخشوعها وأوقاتها والدّوام والمحافظة عليها؛ لأنّها الفريضة الملازمة للمؤمن، وعماد الدّين، وفيها تكرار الولاء لله سبحانه في اليوم خمس مرات، وبها يستمر ذكر الله.
{وَآتُوا الزَّكَاةَ}: وذكر الزّكاة مع الصّلاة؛ لأنّها من أهم العبادات. ارجع إلى سورة البقرة آية (٤٣) لمزيد من البيان في معنى الزكاة.
{وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ}: بالله: الباء للإلصاق والاستمرار، التجِؤوا إليه في جميع أموركم وحوائجكم، وتمسّكوا بدينه وشرعه وبكتابه وسنّة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
{هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}: هو: للحصر والتوكيد؛ هو الرّب المتولّي أموركم والمدبّر شؤونكم وناصركم، وما دام هو مولاكم: فنِعم المولى ونِعم النّصير، الفاء: للتوكيد.
نِعم المولى ونِعم النّصير: تكرار فعل المدح (نعمَ) مرّتين؛ ليكون كلٌّ منهما منفصلاً عن الآخر؛ أي: له كمال الأمرين أو الصّفتين: الولاية والنّصر.