سورة البقرة ٢: ٢٨٦
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}:
في الآية السابقة قال سبحانه ما معناه: لن يحاسبكم على الوساوس، أو الخواطر، وأحاديث النفس، وفي هذه الآية: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}.
{لَا}: النّافية؛ أي: ينفي الله سبحانه أن يكلِّف نفساً إلَّا وسعها.
{يُكَلِّفُ}: لا يلزم، {اللَّهُ نَفْسًا}: بأمر، أو عبادة، أو فرض، أو يأمرها بأي أمر تكليفي فوق قدرتها.
{إِلَّا}: أداة حصر، {وُسْعَهَا}: والوسع: هو القدرة + ما يستطيع القيام به من الزّيادة (التطوع).
{لَهَا مَا كَسَبَتْ}: الكسب: فد يكون في الخير والشر؛ أي: ما أصابت من الخير، والكسب: هو جلب نفع أو دفع ضرر, اللام تفيد الاختصاص، والاستحقاق، {مَا}: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي وهي أعم شمولاً من الذي، أو مصدرية. الكسب: سواء لنفسه، أو لغيره، والكسب يتم من دون تكلف، ويستعمل في الخير عادة؛ أي: لها ثواب ما عملت، أو كسبت من الخير, وقد يستخدم في الشر أحياناً من باب التهلكم أو السخرية.
{وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}: اجتهدت في تحصيله من المعاصي على فيها معنى المشقة والعلوية، {مَا}: اسم موصول؛ بمعنى الّذي، أو مصدرية، {اكْتَسَبَتْ}: على وزن افْتَعَلَ، والاكتساب يكون على نفسه فقط، وفيه جهد، وافتعال، ومشقة، وتكلُّف، وتستعمل في الشر، وارتكاب المعاصي؛ أي: عليها وزرُ ما اكتسبت من الشر واجتهدت في تحصيله, وكل اكتساب كسب, وليس كل كسب اكتساباً, وقد وردت كلمة كسب أو اكتسب ومشتقاتها في (٦٧) في القرآن ووردت بصيغة الماضي والمضارع, وجاءت بمعان عدة منها: العمل, والجمع, والرشوة, وغيرها…, ومنها كسب الصالحات, والسيئات, والأموال, ومنها: الخبيث, والطيب.
{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}:
{رَبَّنَا}: لا تعاقبنا، {إِنْ}: شرطية تفيد الاحتمال، والندرة، {نَسِينَا}: من النسيان: هو ترك بغير اختيار الإنسان, ويختلف عن الغفلة التي هي ترك باختيار الغافل, والغفلة: اسم عام فكل نسيان غفلة, وليس كل غفلة نسيان؛ أي: الغفلة أعم من النسيان, وقيل: النسيان الغفلة عن الشيء مع انمحاء صورة أو معناه عن العقل أو الخيال بالكلية, وأما الغفلة عن الشيء فهي عدم حضور الشيء في الذاكرة أو الخيال؛ أي: انمحاء صورة أو معناه بشكل كامل أو مؤقت, والنسيان هنا يكون عن عمد أو يعني كذلك الترك العمد.
{أَوْ أَخْطَأْنَا}: من الفعل الرباعي أخطأ؛ أي: ارتكب الخطأ بغير عمد واسم الفاعل المخطئ فهو المرتكب الخطأ من دون قصد وتعمد، فالخاطئ يعلم الصواب ويتعدّاه، أما المخطئ فلا يعلم الصواب، وأما الفعل الثلاثي خطِئ بكسر الطاء: وهو الذي يتعمد الخطأ، أو يقع في الذنب وهو يعلمه كقوله تعالى: {إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِـئِينَ} يوسف: ٢٩، وفاعل خطِئ مخطئ، فقالوا الفعل الثلاثي خطِئ (خاطئ) في العمد، والرباعي أخطأ (مخطئ) في غير العمد، وهناك من العلماء من قال كلاهما يستعمل في العمد وغير العمد، أو في غير العمد، وهناك من قال الخاطئ من أراد فعلاً لا يحسنه ففعله، والمخطئ من أراد فعلاً يحسنه فوقع منه غيره.
لأنّ النسيان، أو الخطأ الناتج عن السَّهو، ومن دون تعمد، أو قصد: لا إثم عليه أصلاً.
{رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}:
{رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا}: من التحميل، والتحميل: لا يكون إلَّا لما يستثقل من التكاليف الشاقة والقيود، أما التكليف فقد يكون لما لا ثقل له من التكاليف مثل: الاستغفار، والتسبيح، والذِّكر، فكل ذلك تكليف وليس تحميلاً.
{عَلَيْنَا}: تفيد الاستعلاء والمشقة.
{إِصْرًا}: الإصر: الأمر الغليظ الصعب؛ أي: التكاليف الشاقة، والقيود، والإصر: يطلق على العهد الثقيل، وما كان ناتج عن يمين موثق.
{كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}: الكاف: كاف التشبيه، {حَمَلْتَهُ}: فرضته، وحملته {عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}: أمثال بني إسرائيل، وغيرهم مثل الزكاة بربع المال، والتوبة لا تقبل، والطهارة إلَّا بقطع مكان النجس، وإحراق الغنائم، وتحريم شحوم الأغنام، والبقر، وغيرها من الأحكام.
ما الفرق بين الإصر والوزر: الإصر: هو التكاليف الشاقة والقيود في العبادات، والطاعات، أو العهد، أو اليمين المؤكد مثال: {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِى} آل عمران: ٨١.
والوزر: الذّنب، أو الإثم، وأصل الوزر: الحمل الثقيل على الظهر، واستعير للذنب؛ لأن الذّنب له ثقل مثال: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} الأنعام: ٣١، {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} الشرح: ٢.
{رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا}: من العقوبات، والمصائب، والكوارث، والصواعق، والابتلاءات {مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}.
فهم دعوا ربَّهم الإعفاء من التكاليف الشاقة في العبادات، والإعفاء من الكوارث الكونية، والمصائب والبلايا.
{مَا}: اسم موصول؛ بمعنى: الّذي، لا: نافية للجنس.
{طَاقَةَ لَنَا بِهِ}: الطاقة: هي الوسع + المقدرة (غاية مقدرة القادر).
{مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}: من العبادات، أو الأعمال الشاقة.
{وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}:
{وَاعْفُ عَنَّا}: العفو: هو ترك العقوبة على الذّنب؛ أي: لا تعاقبنا على ذنوبنا.
{وَاغْفِرْ لَنَا}: استر ذنوبنا، ولا تفضحنا، وائتنا ثواب أعمالنا الصالحة.
وستر الذّنب يعني: إسقاط العقوبة؛ أي: العفو، فالمغفرة = العفو + استحقاق الثواب (إيجاب الثواب)، وتعني: لا تطرح سيئاتنا من حسناتنا، وأعطنا الثواب كاملاً.
{وَارْحَمْنَا}: جنبنا وأبعدنا عن الذّنوب، وارحمنا مشتقة من الرّحمة: وهي جلب ما يسر ودفع ما يضر، والرحمة تعني: إيصال النعمة؛ أي: أنعم علينا.
{أَنْتَ مَوْلَانَا}: {أَنْتَ}: تفيد التّوكيد، أنت وحدك {مَوْلَانَا}: مالكنا، ومتولي أمورنا، وناصرنا.
{فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}: للحدِّ من فسادهم وعبثهم في الأرض، أو حتّى يتبيَّن لهم الحق، والهدى، والنصر: لا يعني النصر بالقوة، والسلاح فقط، بل بالحجَّة، والسلطان، وإظهار أمر الله (الإسلام) ولو كره الكافرون.
لو عكسنا الآية تكون كما يلي: ارحمنا (أبعدنا عن الذنوب)، واغفر لنا (استر ذنوبنا، ولا تفضحنا إذا ارتكبناها)، واعف عنا (لا تعاقبنا عليها).
فضل هاتين الآيتين:
روى البخاري، عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه».
واختلف في معنى كفتاه: قيل: أجزأتاه عن قيام الليل، أو قيل: كفتاه أجراً وفضلاً، وقيل: كفتاه من كل شيطان، أو من كل آفة.
وما رواه الإمام أحمد، عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهنَّ نبيٌّ قبلي».
وما رواه مسلم، عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: «بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعنده جبريل؛ إذ سمع نقيضاً فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء، فقال: هذا باب قد فتح من السماء، ما فتح قط، قال: فنزل منه ملك، فأتى النّبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال له: أبشر بنورين قد أوتيتهما، لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفاً منهما إلَّا أوتيته».