سورة آل عمران ٣: ٤٠
{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِىَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}:
قال زكريا: {أَنَّى}: تعني: كيف يكون لي غلام، وقد بلغني الكبر، وامرأتي عاقر.
أو من أين؛ أي: هل ستلد زوجتي، أم هل سأتزوج امرأة أخرى يأتيني منها الولد، وفيها تعجب، واستفهام، والاستفهام لا يعني أن زكريا يشك في قدرة الله تعالى أبداً، ولكن هو يسأل عن الكيفية.
{وَقَدْ}: الواو: عاطفة، قد: حرف تحقيق وتوكيد.
{بَلَغَنِىَ الْكِبَرُ}: أدركني، وأضعفني الكبر، وفي سورة مريم، آية (٨) صرح قائلاً: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا}، ويشبه الكبر بأنه إنسان يلاحقه، ويطارده.
{وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ}: عاقر: من العقر؛ أي: القطع (قطع الرحم لعدم القدرة على الحمل)، والعاقر من الرجال والنساء: الذي لا يأتيه ولد.
وامرأتي عاقر؛ أي: غير قادرة على الإنجاب (سواء أكان السبب الكبر، أو بسبب طبي)، وقد تكون ولدت من قبل، وأصبحت عاقراً، والعاقر يمكن علاجها أحياناً، وتصبح قادرة على الإنجاب.
أما المرأة العقيم، وهذا ما حدث لامرأة إبراهيم -عليه السلام- حين وصفت نفسها بالعجوز العقيم؛ أي: هي لم تلد أبداً، أو عندها عيب خلقي لا يمكن علاجه.
وانتبه إلى قوله: وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر: ولم يقل: وامرأتي عاقر فقط، ولم ينسب إلى نفسه القدرة والصلاح؛ لأن في هذا إساءة إلى شعور المرأة، والأمر هو من قضاء الله وقدره.
وإذا جمعنا هذه الآية مع الآية رقم (٨) من سورة مريم؛ حيث يقول تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا}: فهذا يدلنا على أن امرأته كانت عاقراً (في شبابها)، وقوله: وامرأتي عاقر (في آية آل عمران): تعني الآن؛ أي: كانت ولا زالت عاقراً؛ فيدل ذلك على أنها هي السبب في العقم، وفي آية آل عمران قدم نفسه أولاً، ثم امرأته ثانياً: {بَلَغَنِىَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ}، وأما في آية سورة مريم قدَّم امرأته أولاً ونفسه ثانياً: {وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا}: هذا التقديم والتأخير المتعاكس في هاتين الآيتين إن دلَّ فإنما يدل على أدب معاملة الزوجة، وإن كانت عاقراً، فهذا قدر وقضاء رباني يجب عدم اتخاذه وسيلة لإيذاء شعور الزوجة العاقر.
{قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}: أجابه الله تعالى على لسان الملائكة. كذلك: مثل ذلك (جعلها قادرة على الإنجاب) يفعل الله الكثير من الأفعال؛ أي: سبحانه قادر على أن يصلح له زوجه، كما ورد في الآية (٩٠) من سورة الأنبياء: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ}، ويفعل ما يشاء، ولا يعجزه شيء في الأرض، ولا في السماء.
فلم التعجب، والاستفهام على فعل ذلك.
ولا بد من مقارنة هذ الآية: {كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}؛ التي جاءت في خلق يحيى مع قوله سبحانه: {كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}؛ التي جاءت في سياق خلق عيسى -عليه السلام- ، ففي شأن يحيى قال تعالى: يفعل الله ما يشاء، وفي شأن عيسى -عليه السلام- قال تعالى: يخلق الله ما يشاء، فما الفرق؟
الجواب: خلق يحيى -عليه السلام- يختلف عن خلق عيسى -عليه السلام- ، فالفعل (يفعل ما يشاء) أيسر من الخلق (يخلق ما يشاء)، وجاء ذلك في سياق يحيى -عليه السلام- (من زكريا وزوجته)، واستعمل الخلق مع عيسى -عليه السلام- ؛ لأن مريم لم يمسسها بشر، وجاء عيسى من مريم بدون زوج.