سورة العنكبوت ٢٩: ٦٤
{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}:
{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}: الواو استئنافية، هذه: الهاء للتنبيه، وذا: اسم إشارة للقرب، الحياة الدّنيا: أي السّفلى أو القريبة أو العاجلة، وهذا يدل على أنّ هناك حياة عُليا وحياة آخرة.
{إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ}: إلا أداة حصر؛ أي: حصراً لهواً ولعباً، لأنّها مجردة أو خالية من منهج الله تعالى، وعبادته وطاعته، فالحياة المجردة من عبادة الله وطاعته، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه هي لهو ولعب.
واللهو: هو عبث، والعبث: حركة أو عمل بلا هدف ولا فائدة، واللعب: يتحول إلى لهو إذا شغل الإنسان عما هو مطلوب منه أو شغله عن القيام بواجبه مثل الصّلاة مثلاً، فإن شغله أمر أو فعل فلم يؤدّها، يعتبر ذلك الفعل أو الأمر لهواً؛ أي: عبثاً.
واللعب للأطفال شيء أو أمر طبيعي ولعب الأطفال هو لهو في الوقت نفسه؛ لأنّ الطّفل غير مكلف بواجب فإذا دخل سن البلوغ ولم يؤدِّ مسؤولياته أصبح لعبه لهواً، وهذه هي الآية الوحيدة التي قدم فيها اللهو على اللعب، وقدم اللعب على اللهو في سورة الأنعام آية (٣٢)، وسورة محمد آية (٣٦)، وسورة الحديد آية (٢٠)، وسبب تقديم اللهو على اللعب في هذه الآية: أنه سبقها أو جاءت في سياق الرزق، وكما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} المنافقون: ٩. ارجع إلى سورة الأنعام آية (٣٢) لمزيد من البيان وسبب تقديم اللهو على اللعب في هذه الآية.
{وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِىَ}: إنّ للتوكيد، اللام في لهي لزيادة التّوكيد.
{لَهِىَ الْحَيَوَانُ}: اسم لكلّ ما فيه حياة، والحيوان على وزن: فعلان مثل فيضان، مثل غليان، ففعلان تدل على الحركة والاضطراب والتّقلب وعدم الهدوء، لهي الحيوان: أي الدار الآخرة هي دار حركة وتقلب شديد وتغير، وليس فيها نوم وسكون مقارنة بالحياة الدّنيا.
فالحياة الدّنيا بالنّسبة للدار الآخرة تعتبر سكوناً وهموداً رغم ما فيها من حركة، والدّار الآخرة تعني الجنة، ففيها الحركة الحقيقية والتّقلب والحياة الدّائمة الّتي لا انقطاع فيها ولا موت.
{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}: لو شرطية، لو كانوا يعلمون: العلم النّافع، ما جعلوا الحياة الدّنيا لهواً ولعباً وخسروا الآخرة وهي الحيوان؛ أي: الدّار الحقيقية، ولو كانوا يعلمون: قد تعني هم علموا ولكنهم نسوا وتجاهلوا، أو أنكروا ذلك.
وإذا قارنّا هذه الآية (٦٤) من سور ة العنكبوت: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} مع الآية (٧٠) من سورة الأنعام: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} ومع الآية (٥١) من سورة الأعراف: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}:
فآية سورة العنكبوت تبيّن لنا طبيعة الإنسان الّذي يتّخذ هذه الحياة أو يحوّلها إلى لهوٍ ولعب ولا يقوم بواجباته، وأمّا آية سورة الأنعام تتحدث عن الّذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً، وهؤلاء النّاس هم الآن في الدّنيا (الآية في سياق الدّنيا).
وأمّا آية سورة الأعراف تتحدث عن الّذين هم في الآخرة (في سياق الآخرة) الّذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرّتهم الحياة الدّنيا عندما كانوا في الدّنيا. فكل آية لها معنى مغاير للأخرى، وحين نتدبّر القرآن نجد أن الحق سبحانه يذكر اللعب أولاً ثمّ اللهو، وهو الأمر الطّبيعي فحياة الطّفولة هي لعب ثمّ ينتقل إلى مرحلة الشّباب والكهولة يتحول اللعب فيها إلى لهو (لأن كلّ لعب يشغل عن واجب يصبح لهواً) فلعب الشباب والكهول هو لهو إذا شغلهم عن واجب وإذا لم يشغلهم يكون لعباً، فاللعب منه المفيد مثل السباحة والرياضة، ومنه اللعب المذموم: وهو كلّ لعب يشغل عن واجب، فالمرحلة الأولى الطّفولة لعب، ومرحلة الكهولة لهو، وهذا هو الأمر الطّبيعي، وفي سورة الأعراف والعنكبوت قدم اللهو على اللعب، وتقديم اللهو على اللعب أبلغ في المعنى وآكد، ويأتي ذلك في سياق الآيات الّتي تتحدث عن الكفار أو المشركين أو المشغولين بالحياة الدّنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، يقدّم اللهو على اللعب (بعكس الأمر الطبيعي) لأنّهم بما يقومون به من فساد أخلّ بالموازين فأصبح اللهو في حياتهم هو شيء عظيم؛ لأنّهم أهملوا وعطّلوا واجباتهم نحو ربهم فأصبحت حياتهم كلها لهواً وأحياناً لعباً.