سورة آل عمران ٣: ٧٧
{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِى الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}:
روى الشيخان وغيرهما: أن الأشعث قال: «كان بيني وبين رجل من اليهود أرض، فجحدني، فقدَّمته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «ألك بينة؟» قلت: لا، فقال لليهودي: «احلف»، فقلت: يا رسول الله! إذن يحلف، فيذهب مالي، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}».
وأخرج البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى: أن رجلاً أقام سلعة له في السوق، فحلف بالله، لقد أعطي بها ما لم يعطه؛ ليوقع فيها رجلاً من المسلمين، فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِى الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة: أن الآية نزلت في حُيي بن الأخطب، وكعب بن الأشرف، وغيرهما من اليهود الذين كتموا ما أنزل الله في التوراة وبدلوه، وحلفوا أنه من عند الله، وقيل: نزلت في أبي رافع ولبابة بنت أبي الحُقيق، وحيي بن أخطب: حرَّفوا التوراة، وبدَّلوا صفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأخذوا الرشوة على ذلك.
{إِنَّ}: للتوكيد.
{يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ}: العهد هنا: هو العهد الذي أخذه الله على أهل الكتاب بأنهم إن أدركوا بعثة رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- ليؤمنوا به ويصدقوه ويتبعوه، وهو العهد الذي جاء في قوله تعالى في سورة آل عمران، آية (٨١): {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِى قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}.
فعندما جاءهم ما عرفوا كفروا به أنكروا ما عاهدوا عليه من الإيمان، والتصديق بمحمد، وأتباعه مقابل الثمن والمال الذي أخذوه كرشوة.
أيمانهم: جمع يمين؛ أي: أيمانهم الكاذبة بالله، جعلوا الأيمان الكاذبة مقابل الثمن الذي وُعدوه.
{ثَمَنًا قَلِيلًا}: ووصف الثمن بالقليل؛ حتى ولو كان ثمناً كبيراً وعظيماً؛ لأنه مهما كان الثمن (كثيراً عظيماً) فهو قليل، أو سماه قليلاً؛ لأن من يشتري بآيات الله، أو عهد الله المال فهو قد باع آخرته بدنياه، فأي ثمن يقبضه سيكون قليلاً مهما كانت صفته.
وكلمة (ثمناً) وردت في القرآن في (١٠) آيات في تسع آيات منها ترافقت كلمة (ثمناً) بكلمة (قليلاً)، إلا آية (١٠٦) من سورة المائدة جاءت كلمة (ثمناً) بدون ذكر (قليلاً)، ووردت بثمن بخس في الآية (٢٠) من سورة يوسف فقال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ}.
{أُولَئِكَ}: اسم إشارة، واللام: للبعد، إشارة إلى الذين يشترون بعهد الله.
{لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِى الْآخِرَةِ}: لا نصيب لهم في الآخرة، ولا حظ لهم من نعيم الآخرة، أو خيرها. ارجع إلى سورة البقرة، آية (١٠٢)؛ لمزيد من البيان.
{وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ}: لغضبه عليهم، لا يسمح لهم بالتكلم، أو الاعتذار، لا يؤذن لهم.
{وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ}: استهانة بهم، والسخط عليهم؛ أي: ولا يهتم بهم، ويهملهم.
{وَلَا يُزَكِّيهِمْ}: لا يطهرهم من ذنوبهم، والتزكية الثناء، أو النماء والثناء.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: اللام: لام الاستحقاق، عذاب شديد الإيلام ودائم، وإذا قارنا هذه الآية مع الآية (١٧٤) في سورة البقرة وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: نجد أن الذنب في آية البقرة وهو الكتمان، وإضلال الغير: هو أشد من الذنب في آية آل عمران وهو: يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً، ولذلك كان العقاب أشد في آية البقرة ما يأكلون في بطونهم إلا النار مقارنة بلا خلاف لهم؛ أي: لاحظ ولا نصيب لهم يوم القيامة.