سورة آل عمران ٣: ١٥٣
{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُنَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}:
{إِذْ}: ظرف للزمن الماضي، أو: واذكروا إذ تُصعدون: تفرون هاربين.
{تُصْعِدُونَ}: لها ثلاثة تفسيرات:
١ - تُصعِدون: بضم التاء، وكسر العين: هذا ما قاله أكثر القراء، وتعني: ابتدأ السفر (أي: الانهزام من أرض المعركة) أصعدنا من بغداد إلى خراسان؛ أي: ابتدأنا المسير.
٢ - أو تُصعدون: من أصعد؛ أي: ذهب باتجاه الصعيد؛ أي: في الأرض المستوية حتى ينجو بسرعة، ويستطيع الهرب.
٣ - وتَصعَدون: بفتح التاء والعين من صعد؛ أي: سار من أسفل إلى أعلى؛ أي: صعد على الجبل، والمرجح أنهم هربوا إلى الأرض السهلة؛ للفرار.
{وَلَا تَلْوُنَ عَلَى أَحَدٍ}: أي: لا تلتفتون إلى أحد، أو لا تلتفتون برؤوسكم يمنة ولا يسرة، ولا إلى خلفكم. من لوى: بمعنى عطف.
{وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ}: أي: والرسول -صلى الله عليه وسلم- يناديكم من مؤخرتكم؛ أي: من خلفكم قائلاً: إليّ عباد الله. ارجعوا إليّ عباد الله.
{فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ}: الباء في كلمة بغم: باء الإلصاق؛ أي: غم مع غم، غم بعد غم، غم على غم.
والغمُّ: هو ضيق في الصدر من أمر مكروه، أو حزن شديد، والغم، والنعاس جند من جنود الله.
فأثابكم غماً بغم: فعندنا في هذه الآية غمَّان، واحتمالات هذين الغمين:
الاحتمال الأول: الغم الأول: غم الهزيمة والقتل.
الغم الثاني: قدوم خالد بن الوليد بخيل المشركين.
الاحتمال الثاني: الغم الأول: الفرار، والهزيمة، أو ما فاتهم من الغنيمة.
والغم الثاني: الغم حين سمعوا بقتل محمد -صلى الله عليه وسلم-.
الاحتمال الثالث: إذا كانت الباء بمعنى الجزاء يصبح المعنى:
غماً: أي: ما حدث للصحابة من هزيمة، وقتل، وجراح، وقدوم خالد بن الوليد بخيل المشركين وإشاعة قتل الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
بغم: الباء: سببيه، أو بدلية.
بغم: جزاؤكم؛ لأنكم خالفتم أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أي: حين خالفتم أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سببتم للرسول الغم، فجازاكم الله بغم الهزيمة، والقتل.
وقوله تعالى: {فَأَثَابَكُمْ}: الفاء: للمباشرة والتعقيب.
وسمي ذلك ثواباً؛ أي: ما حدث لكم من قتل وهزيمة وفرار هو لإزالة ومحو خطأ معصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
لكيلا: اللام للتوكيد. كي: للتعليل، وبيان الغرض الحقيقي من الغم، وهو لتجنب الحزن على ما فاتكم من النصر، والغنيمة.
{وَلَا مَا أَصَابَكُمْ}: من القتل، والهزيمة، والفرار، والرعب الذي حدث لكم عند سماعكم بمقتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
{لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ}: من الغنيمة، والنصر؛ جاءت (لكيلا) في هذه موصولة، وفي الآية (٧) في سورة الحشر جاءت مفصولة (كي+لا)، ويجوز كناية لكي لا موصولة أو مفصولة، وهذا يدل أولاً: على أن ما نقرأه في القرآن هو كما نزل على قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- بدون تحريف؛ ثانياً: لعدم فصل بين الحزن على ما فاتكم من الغنيمة وبين ما أصابكم من الجراح والهزيمة؛ لأن الأول هو سبب الثاني.
{وَلَا مَا أَصَابَكُمْ}: من الهزيمة، والقتل، أو الجراح، والرعب بمقتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أي: ما حدث لكم من غم، وهزيمة، وجراحات: هو جزاء لما حدث منكم من معصية، ومخالفة لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث تركتم مواقعكم ركضاً وراء الغنيمة، ومع ذلك سوف يثيبكم الله عليها، ويعفو عنكم، ويطهركم من ذنوبكم، ولتكون عبرة، وموعظة للأيام القادمة، ودرساً لعدم مخالفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما آتاكم، ونهاكم عنه.
{وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}: فالله سبحانه خبير؛ أي: عليم ببواطن أموركم، وبكل ما حصل من معصية، وتنازع، وفرار، وقتل، وترك النبي -صلى الله عليه وسلم- في أرض المعركة وحدة، والله مطلع على نواياكم، وعقولكم، وما تخفي الصدور.