سورة الحديد ٥٧: ٢٥
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ}:
{لَقَدْ}: اللام للتوكيد, قد للتحقيق؛ أي: تحقق وتمّ ذلك. وجاءت لقد بدون واو كقوله: ولقد؛ لأن الآية بدء لخبر جديد؛ انظر إلى الآية القادمة (آية: ٢٦)، وهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ} فقد تقدم لقد الواو الدالة على العطف.
{أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا}: أرسلنا رسلنا، لمعرفة معنى (أرسلنا) والفرق بين أرسلنا وبعثنا: ارجع إلى سورة البقرة الآية (١١٩), رسلنا: الأنبياء والرّسل، وإضافة الرّسل له سبحانه للتشريف.
{بِالْبَيِّنَاتِ}: الباء للإلصاق والملازمة, البينات: جمع بينة: وهي الدّليل والبرهان والمعجزة الدّالة على أنّه الإله الحق المعبود، وأنّه الواحد الأحد خالق كلّ شيء ومليكه، والدّالة على صدق نبوّتهم ودعوتهم إلى الله تعالى.
{وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ}: أي الكتب السّماوية والأحكام والشّرائع والصّحائف.
الكتاب: اسم جنس يشمل كلّ الكتب والشرائع.
{وَالْمِيزَانَ}: يعني العدل، أو أمر بالعدل، وقد يعني: الميزان الحقيقي العادي (آلة الوزن). والعدل موجود في الكتاب وفي الميزان وما يتضمن الكتاب (القرآن) من أحكام وشرائع هي العدل؛ أي: لنقيم العدل يجب تطبيق الكتاب والميزان.
{لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}: اللام لام التّعليل؛ أي: أنزلنا الكتاب والميزان؛ لكي يقوم النّاس بالقسط، ولم يقل بالعدل؛ لأنّ القسط هو تطبيق العدل وتنفيذ الحكم مثل: رفع الظّلم والجَور, وانتبه إلى الفرق بين قَسَط: جار وظلم, وقِسط: رفع الجَور والظّلم؛ أي: ليتعاملوا بينهم بالقِسط.
{وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ}: شبّه إنزال الحديد على الأرض بإنزال الكتب السماوية أو الرسالات السماوية، فهو إنزال حقيقي لا ريب فيه، فقد أثبتت الدّراسات العلمية أنّ عدداً من النّجوم تتحوّل في مرحلة احتضارها (قبل انفجارها) إلى كتلة حرارية هائلة تقدر بمليارات الدرجات المئوية، ويتحوّل النجم إلى ما يسمى العملاق الأحمر، عندها يتحول لبّ النجم بالكامل إلى حديد ثم ينفجر النجم فتتناثر أجزاؤه في صفحة الكون، ويدخل الحديد عندها في مجال جاذبية أجرام سماوية تحتاج إليه كما حدث للأرض عندما كانت في مرحلة الخلق والتّمايز، حيث كانت مكوّنة من رماد، فنزلت ذرات الحديد من تفجُّر تلك النّيازك واخترقت طبقات الأرض؛ لتستقرّ في مركزها على شكل حديد صلب، وتسمى الطبقة المركزية؛ أي: اللب، وطبقة أخرى محيطة بالطّبقة السّابقة من الحديد المذاب وتسمى الطبقة الخارجية. انظر في الصّورة الملحقة.
وأصبح من الحقائق العلمية أن حديد الأرض قد أُنزل من السّماء، وتصل نسبة الحديد في تكوين الأرض ما يقارب (٤٠%) من كتلة الأرض المقدرة بحوالي (٦٠٠٠) مليون مليون مليون طن, وعلى هذا تكون كمية الحديد هي حوالي (٢٠٠٠) مليون مليون مليون طن. ويستقر في مركز الأرض بشكل حديد صلب وبشكل حديد منصهر في الطّبقة المحيطة بالمركز، وله دور هائل في توليد المجال المغناطيسي للأرض الذي يمسك للأرض بغلافها المائي والغازي والحيوي، والغلاف الكهرومغناطيسي يمثل سقفاً محفوظاً للأرض من الأشعة الكونية والأشعة الشمسية القاتلة للحياة، مما يجعل الأرض كوكباً صالحاً للحياة.
ومن المذهل أن يكون رقم سورة الحديد في ترتيب القرآن (٥٧) وهو الوزن الذّري نفسه لمعدن الحديد.
{فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ}: فقد وجد أن تلاحم ذرات الحديد داخل النواة الحديد يفوق تلاحم ذرات كل العناصر أو المعادن التي يفوق وزنها الذري الوزن الذري للحديد، فهو أشد تلاحماً من الذهب والفضة والنحاس وغيرها من المعادن، وتحتاج نواة ذرة الحديد إلى كمية هائلة من الطاقة للانصهار والذوبان.
{وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}: أي تصنع منه الآلات الحربية والآلات الزّراعية والسّيارات وأدوات النّقل والعمارة والبناء والأدوات مثل: أدوات الحفر، فلا تكاد تقوم أيُّ صناعة مدنيّة على غير الحديد.
{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ}: وليعلم: الواو عطف, ليعلم: اللام لام التّعليل, ليعلم الله: العلم هنا لا يعني لإعلام الله ما لا يعلم، وإنما لإقامة الحُجة على النّاس أو لإظهار إخلاصهم؛ ليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب: أي ليعلم أنّ من يجاهد في سبيله كي ينصره؛ أي: ينصر دين الله أو يُعلي كلمة الله في الأرض, ورسله: من ينصر ويؤيّد رسله في الدّعوة والإبلاغ بالغيب بالخفاء أو بالجهر، ومعناه: أفعلوا ذلك لوجه الله تعالى وحده وليس لحظٍّ دنيوي.
{إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ}: إنّ للتوكيد, قوي: لا يحتاج إلى نصرة أحد؛ لأنّه هو النّاصر ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السّماء, ووردت كلمة (قوي) في تسع آيات في القرآن الكريم, عزيز: القوي الذي لا يُغلب ولا يُقهر ولا يناله أحد بسوء، وترددت كلمة (العزيز) في القرآن ثماني وثمانين مرة.