سورة الجمعة ٦٢: ١١
{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}:
سبب نزول هذه الآية: كما أخرج البخاري ومسلم وغيرهما، عن جابر قال: كان النّبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم الجمعة إذا أقبلت عيرٌ؛ أي: إبل، محمّلة طعاماً ودقيقاً وغيره من المتاع، قدمت من الشّام، فخرجوا إليها حتى لم يبقَ معه -صلى الله عليه وسلم- إلا (١٢) رجلاً، فأنزل الله سبحانه هذه الآيات.
وكان من عادة أهل المدينة إذا جاءت قافلة تجارية تحمل الميرة؛ أي: الطعام والحاجيات، يستقبلونها باللهو وضرب الطّبول والمزامير، فخرج النّاس يتسلّلون حتى لم يبقَ مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا (١٢) رجلاً، فنزلت هذه الآيات.
{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً}: وإذا: ظرفية زمانية. رأوا تجارة قادمة إليهم.
{أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا}: أي خرجوا إليها، من: الفضّ وهو: كسر الشّيء والتّفريق بين أجزائه؛ أي: خرجوا متفرقين لمجرد سماع الطّبل، منهم من خرج للانتفاع من التجارة ومنهم من خرج للهو. والضّمير في كلمة (إليها) يعود على التجارة أو اللهو، اللهو هنا هو استقبال العير بالطّبول والتصفيق والمزامير والغناء، أو تركهم الجمعة (الخطبة والصلاة) يعتبر عملاً يُلهي عن واجب، فهو يعتبر لهواً بحدِّ ذاته، ولم يقل إليهما؛ لأن خبر أحدهما يغني عن الآخر.
{وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}: أي على المنبر تخطب.
{قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ}: تكرار (من) مرتين؛ لفصل أحدهما عن الآخر: فصل اللهو من التّجارة وكلاهما معاً.
{قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ}: من الثّواب والجزاء كالجنة والنّعيم المقيم.
{خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ}: وما عند الله خير؛ أي: أفضل من اللهو، وتعريفه: هو ما يشغل الإنسان عن واجب أو ما يهمه، أو هو لعب يشغل عن واجب؛ أي: أفضل من سماع الطبول والمزامير والغناء، التي شغلتهم عن الصلاة إذا شغلتهم عن ذكر الله وعن الصلاة، وأفضل من التّجارة (البيع والشّراء).
{وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}: والله سبحانه هو الرّزاق الحقيقي وغيره ليسوا رازقين حقيقةً؛ لأنّهم عرضة للموت والأغيار، ولكنّه سبحانه من كرمه وفضله أطلق عليهم هذه الصّفة التي هي صفة حقيقية ثابتة من صفاته.
وإذا نظرنا إلى الآية (١١) نجده في مطلع الآية قدّم التّجارة على اللهو فقال: (وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضّوا لها)؛ لأن التجارة كانت هي السبب الحقيقي للخرج من صلاة الجمعة لنزول الآية وليس اللهو.
وفي نهاية الآية: (قل ما عند الله خير من اللهو ومن التّجارة) قدّم اللهو على التّجارة، فكيف نفسر ذلك؟ لأن اللهو أعم من التجارة؛ أي قدّم الأعمَّ على الأخصّ؛ لأنّ اللهو أعمُّ من التّجارة بالنّسبة للناس فليس كل إنسان تاجراً، والمهم العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، الإلهاء في ما لا خير فيه مذموم.