سورة النساء ٤: ٤٦
{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِى الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا}:
هذه الآية: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا}: إما متصلة بقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا}: من الذين هادوا، وإما ابتدائية من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه:
{مِنَ}: وليس كل الذين هادوا، ومن: للعاقل، وقد تكون للمفرد، والجمع.
{الَّذِينَ هَادُوا}: ارجع إلى الآية (٦٢) من سورة البقرة.
{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}: الكلم: هو كلام الله تعالى للذكور فقط في التوراة. جمع: كلمة، وهو جمع كثرة مقارنة بكلمات الله كما في الآية (١٠٩) من سورة الكهف: {قُلْ لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}، وكلمات: جمع قلة، والعلم: جمع كثرة، فالبحر ينفد، وكلمات الله لا تنفد، فما بالك بالكلم؟!
{يُحَرِّفُونَ}: التحريف: الميل بالكلام عن معناه الحقيقي إلى معناه الباطل للتضليل، أو يبدلونه بكلام آخر، أو يضعون هذا مكان هذا، أو يعدلون عن النطق به والعمل به؛ بحمل الألفاظ على غير ما وصفت له مثل حطة؛ حنطة من أجل السخرية والاستهزاء، ولا بد من مقارنة هذه الآية مع الآية (٤١) في سورة المائدة وهي قوله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} نجد التحريف الأول كان بعد موت موسى قام به اليهود الأوائل (يحرفون الكلم عن مواضعه)، وحدث تحريف ثانٍ في زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين علموا به كرسول فقال تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} من: تدل على القرب؛ أي: حرفوه مباشرة بعد سماعهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ (بعد): تدل على الزمن بين التحريف الأول، والتحريف الثاني.
{عَنْ}: تفيد المجاوزة.
{وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}: يقولون بأفواههم وألسنتهم سمعنا، أو قولاً مسموعاً، سماع الأذان، وعصينا، وفي أنفسهم نية العصيان، أو يضمرون العصيان.
{وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ}: اسمع لا سمعت، أو لا أسمعك الله.
{وَرَاعِنَا}: وهي كلمة ظاهرها المراعاة، وباطنها الطعن في رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ اليهود يعدونها من الرعونة، يقولونها لرسول الله سباً وشتماً، والرعونة تعني: الشر، والطيش، والحمق، وأصلها: أرقبنا وانتظرنا.
{لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِى الدِّينِ}: لياً: فتلاً، وتحريفاً؛ كأن يقول: السأم عليكم بدلاً من السلام عليكم، وطعناً في الدِّين: ذمّاً بالإسلام، وتعني: الشتم.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا}:
{وَلَوْ}: حرف امتناع لامتناع.
{أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}: قالوا: سمعنا قولك، وأطعنا أمرك. واسمع: ما نقول.
{وَانظُرْنَا}: بدلاً من قولهم راعنا، أو تمهل علينا حتى نفهم ما تقول، أو انتظرنا.
{لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ}: لكان أكثر أدباً وأصوب، لكان خيراً لهم مما قالوه، وأقوم، وأعدل.
{وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ}:
{وَلَكِنْ}: حرف استدراك.
واللعن: هو الطرد، والإبعاد عن رحمة الله تعالى؛ بسبب كفرهم. الباء: باء السببية، أو البدلية.
{فَلَا}: الفاء: للتوكيد. لا: النافية.
{يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا}: أيْ: لا يؤمن منهم إلا القليل؛ أي: العدد القليل، أو أكثرهم يؤمنون الإيمان الناقص.