سورة النساء ٤: ١٣٥
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: نداء من الله للذين آمنوا بتكليف جديد، وهو: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}.
{قَوَّامِينَ}: جمع قوّام (وليس قائم)؛ قوّام: صيغة مبالغة لقائم، فلم يقل: كونوا قائمين، بل {قَوَّامِينَ}: ومن قام بالشيء فعله، وقوامين: تدل على كثرة القيام؛ أيْ: كونوا: {قَوَّامِينَ}: بالقسط؛ بكثرة، واستمروا على ذلك، وابذلوا جهدكم.
{بِالْقِسْطِ}: لغةً: هو الحظ والنصيب، ويستعمل في سياق الموازين، وكذلك القسط: هو الحكم بالعدل، وإزالة ورفع الظلم عن المظلوم. ارجع إلى الآية (٣) في نفس السورة.
أما العدل: فهو الحكم بالحق، والمساواة في الأحكام: إعطاء كل ذي حق حقه؛ فلا يكفي الحكم، بل لا بُدَّ من تطبيق الحكم، وهذا يعني: بالقسط.
فهناك فرق بين العدل، والقسط: كلاهما يعني: المساواة والإنصاف، ولكن العدل: هو الحكم بالعدل، والقسط: هو إظهار العدل؛ أي: تطبيق العدل، وتنفيذه باستعمال الميزان وغيره من الوسائل، وعدم الاكتفاء بإصدار الحكم.
{شُهَدَاءَ لِلَّهِ}: جمع شاهد، شهداء بالحق، دون تحريف، أو زيغ ابتغاء مرضاة الله. ارجع إلى سورة البقرة، آية (١٣٣)؛ لمزيد من البيان في معنى شهداء، وقدم في هذه الآية قوامين بالقسط على شهداء لله، بينما في الآية (٨) في سورة المائدة قدم قوامين لله على شهداء لله؛ انظر في نهاية تفسير الآية إلى الفرق بين الآيتين.
{وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ}: الواو: عاطفة، لو: حرف شرط.
{وَلَوْ}: تفيد البعد؛ لأن الإنسان أبعد شيئاً أن يشهد على نفسه، وانتبه إلى قوله عزَّ وجلَّ: {وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ}: ولم يقل: لأنفسكم؛ تعني: لمصلحة أنفسكم، فقوله: {عَلَى أَنفُسِكُمْ}: أيْ: وإن كانت الشهادة ضدكم، ولغير مصلحتكم.
{أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}: أيْ: حتى لو كانت الشهادة؛ أيْ: شهادتكم ضد أبويكم، أو ضد أقاربكم، أو أقرب الخلق إليكم؛ فإياكم أن تشهدوا مودةً، أو تعصباً.
{إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا}:
{إِنْ}: شرطية.
{يَكُنْ}: المشهود عليه، أو المشهود له.
{غَنِيًّا}: فلا يراعى لأجل غناه، أو طمعاً في ماله، أو استجلاباً لمنفعة، أو دفعاً لمضرة، فيترك الشهادة عليه.
{أَوْ فَقِيرًا}: كذلك لا يراعى لأجل فقره، أو رأفة به، وإشفاقاً عليه، فلا تشهد عليه.
{فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا}: أيْ: أنت أيها العبد، لم تخلق أحدهما، فالله أحقُّ بهما؛ أيْ: بالنظر إليهما من ناحية الغنى والفقر؛ أيْ: هذه إرادة الله في أن يكون غنياً، أو فقيراً، فلا تتأثر بحالهما، بل اشهد بالحق، وأما بالنسبة للصدقة؛ فهذا موضوع آخر.
{فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى}: فتنحازوا إلى الغني، أو إلى الفقير، فلا دخل للشهادة بالغنى، أو الفقر، والهوى تعريفه: هو:
{الْهَوَى}: هو ميل النفس إلى شيء تحبه وتهواه، بغض النظر عما أمرَ الله تعالى، أو نهى عنه، والهوى يختلف من شخص إلى آخر، فالأهواء مختلفة، والهوى غالباً ما يكون مذموماً، أو باطلاً؛ أيْ: بعيداً عن الحق، وبلا دليل.
{أَنْ تَعْدِلُوا}: أن: حرف مصدري؛ يفيد التوكيد؛ أيْ: تقيموا الشهادة بحق وإخلاص، وتتجنبوا الزيغ والهوى.
{غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا}: أو: تفيد في تصريف المعنى على أربعة أوجه:
الأول: الخصم الأول: غني، والخصم الثاني: غني.
الثاني: الخصم الأول: فقير، والخصم الثاني: فقير.
الثالث: الخصم الأول: فقير، والخصم الثاني: غني.
الرابع: الخصم الأول: غني، والخصم الثاني: فقير.
وتصريف آخر:
الأول: الله أولى بغنى الغني، وفقر الفقير، مهما كانت درجة غناه، ومهما كانت درجة فقره.
الثاني: أيُّ غني، أو أيُّ فقير (نكرة)، فالله كذلك أولى بهما.
{وَإِنْ تَلْوُا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}:
{وَإِنْ}: الواو: استئنافية. إن: شرطية.
{تَلْوُا}: في الشهادة، والتي هي التحريف؛ أيْ: وإن تحرِّفوا الشهادة، أو تعمدوا إلى الكذب.
{أَوْ تُعْرِضُوا}: من الإعراض؛ أي: الامتناع عن أداء الشهادة؛ لكونه يخاف من المشهود عليه، أو يمتنع عنها؛ ضراً بالمشهود له، والإعراض يعني: كذلك الكتمان، أو يعرض عن الشهادة؛ لكون الشهادة ترجح الطرف الذي يعاديه، كما قال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} المائدة: ٨.
{فَإِنَّ اللَّهَ}: الفاء: للتوكيد، وإن: لزيادة التوكيد.
{كَانَ}: كان، وما زال، وسيظل تشمل كل الأزمنة.
{بِمَا}: الباء: للإلصاق، ما: اسم موصول، أو حرف مصدري.
{تَعْمَلُونَ}: تشمل الأفعال، والأقوال.
{خَبِيرًا}: عليماً بكل شيء، ببواطن الأمور وظواهرها، يعلم ما تسرونه، وتقولونه، وتفعلونه.
وقدَّم كلمة: {تَعْمَلُونَ} على كلمة: {خَبِيرًا}: لأن السياق في الشهادة والأعمال.
لنقارن آية سورة النساء، آية (١٣٥): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}.
مع الآية (٨) من سورة المائدة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا}:
في النساء قدَّم: {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} على {شُهَدَاءَ لِلَّهِ}.
وفي المائدة قدَّم: {قَوَّامِينَ لِلَّهِ} على {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}.
لأن الآية في سورة النساء جاءت في سياق نشوز الرجال، والإصلاح بين الزوجين، ومعاملة اليتيم، والمستضعفين من الولدان، وقوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ}: إذن السياق والحديث هنا عن القسط، والعدل، فناسب ذلك تقديم القسط؛ أيْ: كونوا قوامين بالقسط بين الأزواج، واليتيم، والمستضعفين من الولدان، وعند الصلح.
أمّا الآية في سورة المائدة: فسبقها ذكر {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، والعهود، والدَّين، والمحرمات.
وقوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِى وَاثَقَكُمْ بِهِ}.
إذن جاءت في سياق العقود، والعهود، والمواثيق؛ فناسب ذلك الوفاء بما أمركم الله تعالى، وتجنب ما نهاكم عنه، ولذلك قدَّم قوامين لله؛ أيْ: بالوفاء بالعهود، والعقود، والمواثيق أولاً، وهو الأهم، وأخر القيام بالقسط.
وهناك فرق بين {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}، و: {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}: هناك فرق بين أن تكون أنت المتهم، أو الجاني؛ أي: المشهود عليه، كما في سورة النساء، وبين أن تكون أنت الشاهد، كما في سورة المائدة.