استهلكت فيها، والعقول الصافية قد أفرغت عليها مجهودها والأنفس النيرة قد أفاضت عليها أشرف ما عندها، والملكات الهندسية قد أخرجتها إلى الفعل مثالا في غاية إمكانها، حتى أنها تكاد تحدث عن قوّة قومها، وتخبر عن سيرتهم، وتنطق عن علومهم، وأذهانهم وتترجم عن سيرهم، وأخبارهم، وذلك أن وضعها على شكل مخروط ويبتدئ من قاعدة مربعة، وينتهي إلى نقطة. ومن خواص الشكل المخروط: أن مركز ثقله في وسطه يتساند على نفسه، ويتواقع على ذاته ويتحامل بعضه على بعض، وليس له جهة أخرى يتساقط عليها.
ومن عجيب وضعه، أنه شكل مربع قد قوبل بزوايا مهاب الرياح الأربع، فإن الريح تنكسر سورتها عند مسامتتها الزاوية، وليست كذلك عندما تلقي السطح.
وذكر المساح: أنّ قاعدة كل من الهرمين العظيمين أربعمائة ذراع بالذراع السوداء، وينقطع المخروط في أعلاه عند سطح مساحته عشرة أذرع في مثلها، وذكر أن بعض الرماة رمى سهما في قطر أحدهما، وفي سمكة فسقط السهم دون نصف المسافة، وذكر أنّ ذرع سطحها أحد عشر ذراعا بذراع اليد، وفي أحد هذين الهرمين، مدخل يلجه الناس يفضي بهم إلى مسالك ضيقة وأسراب متنافذة وآبار ومهالك، وغير ذلك على ما يحكيه من يلجه، وإنّ أناسا كثيرين لهم غرام به وتحيّل فيه فيتوغلون في أعماقه، ولا بدّ أن ينتهوا إلى ما يعجزون عن سلوكه.
وأما المسلوك المطروق كثيرا، فزلاقة تفضي إلى أعلاه، فيوجد فيه بيت مربع فيه ناوس من حجر، وهذا المدخل ليس هو الباب في أصل البناء، وإنما هو منقوب نقبا صادف اتفاقا، وذكر أنّ المأمون فتحه.
وحكى من دخله وصعد إلى البيت الذي في أعلاه فلما نزلوا حدّثوا بعظيم ما شاهدوه، وإنه مملوء بالخفافيش وأبوالها وتعظم فيه حتى تكون قدر الحمام، وفيه طاقات وروازن نحو أعلاه كأنها عملت مسالك للريح ومنافذ للضوء بحجارة جافية طول الحجر منها: من عشرة أذرع إلى عشرين ذراعا، وسمكه من ذراعين إلى ثلاثة أذرع، وعرضه نحو ذلك.
والعجب كل العجب من وضع الحجر على الحجر بهندام ليس في الإمكان أصح منه بحيث لا نجد بينهما مدخل إبرة ولا خلل شعرة، وبينهما طين لونه الزرقة لا يدرى ما هو؟
ولا صفته؟ وعلى تلك الحجارة كتابات بالقلم القديم المجهول الذي لم يوجد بديار مصر من يزعم أنه سمع من يعرفه، وهذه الكتابات كثيرة جدّا حتى لو نقل ما عليها إلى صحف لكانت قدر عشرة آلاف صحيفة، وقرأت في بعض كتب الصابئة القديمة: أنّ أحد هذين الهرمين، قبر أعاديمون، والآخر قبر هرمس، ويزعمون أنهما بيتان عظيمان، وأنّ أعاديمون أقدم وأعظم وإنّه كان يحجج إليهما ويهدى إليهما من أقطار البلاد.