وبعث ملكهم إلى السلطان كتابا نصه: أما بعد: فإنه لم يخف عليك أني أمين الأمّة العيسوية، كما أنه لا يخفى عليّ أنك أمين الأمّة المحمدية، وغير خاف عليك أن عندنا أهل جزائر الأندلس، وما يحملونه إلينا من الأموال والهدايا، ونحن نسوقهم سوق البقر ونقتل منهم الرجال، ونرمّل النساء، ونستأسر البنات والصبيان ونخلي منهم الديار، وأنا قد أبديت لك ما فيه الكفاية، وبذلت لك النصح إلى النهاية، فلو حلفت لي بكل الإيمان، وأدخلت عليّ الأقساء والرهبان، وحملت قدّامي الشمع طاعة للصلبان لكنت واصلا إليك، وقاتلك في أعز البقاع إليك، فإما إن تكون البلاد لي فيا هدية حصلت في يديّ، وإما أن تكون البلاد لك والغلبة عليّ، فيدك العليا ممتدّة إليّ، وقد عرّفتك وحذرتك من عساكر حضرت في طاعتي، تملأ السهل والجبل، وعددهم كعدد الحصى، وهم مرسلون إليك بأسياف القضاء.
فلما قرىء الكتاب على السلطان، وقد اشتدّ به المرض بكى، واسترجع.
فكتب القاضي بهاء الدين «١» زهير بن محمد، الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلواته على سيدنا محمد رسول الله وآله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإنه وصل كتابك، وأنت تهدّد فيه بكثرة جيوشك، وعدد أبطالك، فنحن أرباب السيوف، وما قتل منا فرد إلا جدّدناه، ولا بغى علينا باغ إلا دمّرناه، ولو رأت عينك أيها المغرور، حدّ سيوفنا، وعظم حروبنا، وفتحنا منكم الحصون والسواحل، وتخريبنا ديار الأواخر منكم والأوائل، لكان لك أن تعض على أنا ملك بالندم، ولا بدّ أن تزل بك القدم في يوم أوّله لنا وآخره عليك، فهنالك تسيء الظنون، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون، فإذا قرأت كتابي هذا، فتكون فيه على أوّل سورة النحل: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ
النحل/ ١ وتكون على آخر سورة ص:
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ
ص/ ٨٨ ، ونعود إلى قول الله تعالى، وهو أصدق القائلين: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
البقرة/ ٢٤٩ ، وقول الحكماء: إنّ الباغي له مصرع وبغيك يصرعك، وإلى البلاد يقلبك والسلام.
وفي يوم السبت ورد الفرنج وضربوا خيامهم في أكثر البلاد التي فيها عساكر المسلمين، وكانت خيمة الملك رواد فرنس حمراء، فناوشهم المسلمون القتال، واستشهد يومئذ الأمير نجم الدين يوسف بن شيخ الإسلام، والأمير صارم الدين أزبك الوزيريّ، فلما أمسى الليل رحل الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ بعساكر المسلمين جبنا وصلفا، وسار بهم في برّ دمياط، وسار إلى جهة أشموم طناح، فخاف من كان في مدينة دمياط، وخرجوا منها على وجوههم في الليل لا يلتفتون إلى شيء، وتركوا المدينة خالية من الناس، ولحقوا بالعسكر في أشموم، وهم حفاة عرايا جياع حيارى بمن معهم من النساء والأولاد،