حاكيا له. ولمثل ذلك توضع الدساتر، وتدوّن الدواوين؛ على أنه ربما غيّر وبدّل، وحرّف وصحّف، وأزال اللفظ عن وضعه؛ وأحال المعنى عن حكمه؛ وبعضهم ربما حملته الأنفة والخوف من أن يقال أخذ كلام فلان برمته، فعدل إلى كلام غيره، فالتقط من كل مكان سجعتين أو سجعات، ورتب بعضها على بعض حتّى تقوم بمقصوده، وينتهي إلى مراده.
فإن كان لطيف الذوق، حسن الاختيار، رائق الترتيب، فاختار من خلال السجع لطيفه، وأحسن رصفه وتأليفه، جاء بهجا رائقا، لأنه أتى من كل كلام بأحسنه، إلا أن فيه إخراج الكلام عن وضعه الذي قصده الناثر، وتفريق ما دوّن من كلام الأفاضل وتبديد شمله، وخروج الكلام عن أن يعرف قائله، ويعلم منشئه، فيقع من القلوب بمكان صاحبه ويهتدي بهديه، وينسج على منواله.
وإن لم يكن لطيف الذوق، ولا حسن الاختيار، جاء مالفقّه من كلام غيره رثّا ركيكا، نابيا عن الذوق، بعيدا عن الصنعة، يعاد من النسخ إلى المسخ، وأخرج الكلام عن موضوعه، وأفسده في وضعه وتركيبه، فإن صحبه التصحيف والتحريف فتلك الطامّة الكبرى، والمصيبة العظمى؛ ثم لا يكتفي بذلك حتى يتبجح به ويعتقد أن ذلك عين الإنشاء وحقيقته، محتجّا في ذلك بقول الحريري:
«إن صناعة الحساب موضوعة على التحقيق، وصناعة الإنشاء مبنية على التلفيق» ظانّا أن التفليق هو ضم سجعات منتظمة، وفقرات مؤلّفة بعضها إلى بعض، ولم يعلم أن المراد بالتلفيق ضم لفظة إلى أختها، وإضافة كلمة إلى مشاكلتها وشتّان ما بين التلفيقين، وبعدا لما بين الطريقين:
وللزّنبور والبازي جميعا ... لدى الطّيران أجنحة وخفق
ولكن بين ما يصطاد باز ... وما يصطاده الزّنبور فرق
وقد عابوا أخذ المعنى إذا كان ظاهرا مكشوفا، فما ظنّك بمن يأخذ الكلام برمته، واللفظ بصورته، فيصير ناسخا لكلام غيره، وناقلا له! فأيّ فضيلة في ذلك؟