وقال مقاتل: عرفته ولكنها شبهت عليهم كما شبهوا عليها، فلو أنهم قالوا هذا عرشك لقالت نعم (١).
وهذا القول هو اختيار الحسين بن الفضل، وفي هذا دقة نظر الحسين بطرائق الكلام وتصرفاته.
ومسألة التشبيه لا إشكال فيها، لأن سليمان ـ -عليه السلام- ـ يريد أن ينظر إلى عقلها وكان فيها ثبات وعقل، ولها لب ودهاء وحزم، فلم تُقْدم على أنه هو لبعد مسافته عنها، ولا أنه غيره لما رأت من آثاره وصفاته وإن غير وبدل ونكر، فقالت (كأنه هو) أي يشبهه ويقاربه وهذه الإجابة منها في غاية الذكاء والحزم (٢)، ويدل على فطنتها وغزارة فهمها؛ لأنها استبعدت أن يكون عرشها، فقد خلفته وراءها بأرض اليمن، ولم تكن تعلم أن أحداً يقدر على هذا الصنع العجيب الغريب (٣).
قال الرازي: " أما قوله (أهكذا عرشك) فاعلم أنَّ "هكذا" ثلاث كلمات، حرف التنبيه، وكاف التشبيه، واسم الإشارة، ولم يقل أهذا عرشك، ولكن أمثل هذا عرشك لئلا يكون تلقيناً. فقالت: كأنه هو، ولم تقل هو هو ولا ليس به، وذلك من كمال عقلها حيث توقفت في محل التوقف ". (٤)
ويبقى قوله: (ولو قالوا لها هذا عرشك، لقالت: نعم)
فيُتوقف فيه لأن هذا يخالف روايتي مجاهد وابن زيد السابقتين، وصرح مقاتل والحسين بن الفضل بأنها عرفته فستجيب بنعم، وهذا يخالف القول الآخر في الآية وهو اشتباه الأمر عليها مع أنها لو قالت (لا) لكانت صادقة، لأنه نُكِّر، وقولها كأنه هو تجوز فصيح. (٥)
لكن لا سبيل لمعرفة حقيقة الأمر فهل هي عرفته أم أنه اشتبه الأمر عليها، إلا بنقل صحيح لأن المغيبات لا تثبت إلا بالنقل، ثم إنه لا فائدة لنا مرجوة من وراء معرفة ذلك، فللَّه الحمد والمنَّة.
(١) زاد المسير ٦/ ١٧٧، وينظر: تفسير السمرقندي ٢/ ٥٨٤، وتفسير السمعاني ٤/ ١٠٠، وتفسير البغوي ٣/ ٤٠٤.
(٢) ينظر: تفسير ابن كثير ٣/ ٣٦٥.
(٣) ينظر: البداية والنهاية ٢/ ٣٣٦.
(٤) تفسيره ٢٤/ ١٧١.
(٥) ينظر في (لو قالت لا، وما بعدها) المحرر الوجيز ٤/ ٢٦١.