وكذلك ما خلقهم إلا للعبادة، ثم قد يعبدون وقد لا يعبدون. ومثل هذا كثير في القرآن، يبين أنه فعل ما فعل ليكبروه وليعدلوا، ولا يظلموا، وليعلموا ما هو متصف به، وغيره مما أمر الله به العباد، وأحبه لهم ورضيه منهم، وفيه سعادتهم وكمالهم وصلاحهم وفلاحهم إذا فعلوا، ثم منهم من يفعل ذلك ومنهم من لا يفعله.
وهو سبحانه لم يقل إنه فعل الأول ليفعل هو الثاني، ولا ليفعل بهم الثاني فلم يذكر أنه خلقهم ليجعلهم هم عابدين، فإن ما فعله من الأسباب لما يفعله هو من الغايات يجب أن يفعله لا محالة، ويمتنع أن يفعله أمراً ليفعل أمراً ثانياً ولا يفعل الأمر الثاني، ولكن ذكر أنه فعل الأول ليفعلوا هم الثاني، فيكونون هم الفاعلين له فيحصل بفعلهم سعادتهم، وما يحبه ويرضاه لهم، فيحصل ما يحبُّه هو وما يحبونه هم، كما تقدم أن كل ما خلقه وأمر به غايته محبوبة لله ولعباده، وفيه حكمة له، وفيه رحمة لعباده " (١)
قال البغوي: " ومعنى العبادة في اللغة: التذلل والانقياد، فكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله، متذلل لمشيئته لا يملك أحد لنفسه خروجا عمَّا خُلق عليه " (٢)
والذي يتضح من قول الحسين ـ رحمه الله ـ أنه يذهب إلى كون الآية عامة في الثَّقلين.
قال ابن عطية: " وتحتمل الآية أن يكون المعنى ما خلقت الجنّ والإنس إلا مُعَدِّين ليعبدون، وكأن الآية تعديد نعمه، أي خلقت لهم حواساً وعقولاً وأجساماً منقادة نحو العبادة وهذا كما نقول البقر مخلوقة للحرث والخيل للحرب، وقد يكون منهما مالا يحارب به أصلاً فالمعنى أنَّ الإعداد في خلق هؤلاء إنما هو للعبادة لكن بعضهم تكسب صرف نفسه عن ذلك، ويؤيد هذا المنزع قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (اعملوا فكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلق له) ". (٣)
وقال العيني: " ومعنى الآية في الجملة أن الله تعالى لم يخلقهم للعبادة خلق جبلة واختيار وإنما خلقهم لها خلق تكليف واختبار، فمن وفقه وسدده أقام العبادة التي خلق لها ومن خذله وطرده حرمها وعمل بما خلق له كقوله: -صلى الله عليه وسلم- (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) وفي نفس الأمر هذا سر لا يطلع عليه غير الله تعالى، وقال {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (٤) الأنبياء: ٢٣
(١) مجموع الفتاوى ٨/ ٥٥/ ٥٦.
(٢) تفسيره ٤/ ٢٣٥.
(٣) المحرر الوجيز ٥/ ١٨٣.
(٤) عمدة القارئ ١٩/ ١٩٢.