وليس من شكٍّ في أن هذا الصَّنيع كان من أهمِّ الأسباب في ازدهار الحركة العلميَّة في المساجد. والحقُّ أنه كان بين علماء الفقه والحديث من لا يبغون بعلمهم وتعليمهم سوى الثواب من الله. ولعلَّه من أجل ذلك شاع بينهم التكسب من الحرف أو التجارة كأبي حنيفة (١) وغيره، غير أن الكثرة ـ وخاصة من علماء اللغة وأصحاب العلوم الدُّنيويَّة ـ كانوا يتَّخذون علمهم، حرفة لهم ومتجراً، بل لقد كان متجراً رابحاً.
وكان من أهم الأسباب في بلوغ الحركة العلمية غايتها في النهضة الواسعة استخدامُ الورق، واتسعت صنعةُ الوراقة وقد مضى العلماء حينئذ يفيدون منها، فاتَّخذوا لأنفسهم ورَّاقين ينقلون عنهم كتبهم ويذيعونها في الناس، وقد أخذ كثير من الأفراد يُعنَون باقتناء المكتبات.
ولم تكن الكتب والمساجد هي كلُّ ما هيَّأ لازدهار الحركة العلمية حينئذ، فقد هيَّأت لها أيضاً مجالس الخلفاء والوزراء والأمراء؛ إذ تحوَّلوا بها إلى ما يشبه ندوات علمية يتناظر فيها العلماء من كل صنف.
وحقاً لقد تغلغلت المعرفة والثقافة في جميع الأوساط حتى في أوساط العامة، وأصبحت غذاءً لجميع العقول والقلوب، وبرزت صفوة من العلماء كان جمهورها من أبناء هؤلاء العامة قادوا الحركة العلمية قيادة باهرة) (٢).
* ثانياً: حياة الحسين بن الفضل:
ويتضمن ما يلي:
١ - اسمه ونسبه ومولده
الحقيقة أن الكلام عن هذا العالم في كتب التراجم نادر، والذي أطنب في ترجمته هو الحاكم (٣) في كتابه ولعله (تاريخ نيسابور) وهو ـ على حسب علمي ـ كتاب مفقود، ولذا فإنَّ الذين نقلوا شيئاً من ترجمته كانت ـ على حد اطِّلاعي - عن طريق كتاب الحاكم، ومنهم الإمام الذهبي (٤) حيث قال: " قال الحاكم: الحسين بن الفضل بن عمير بن قاسم بن كيسان البجلي المفسِّر إمام عصره في معاني القرآن ". (٥) أبو علي البجلي الكوفي ثم النَّيسابوري (٦).
(١) أبو حنيفة: النعمان بن ثابت التيمي مولاهم، أحد أئمة الفقه الأربعة المتبوعين، كان يبيع الخزَّ ويطلب العلم في صباه، ثم انقطع للتدريس والإفتاء، توفي سنة (١٥٠ هـ)، ينظر: السير (٦/ ٣٩٠)، الأعلام (٨/ ٣٦)
(٢) ينظر ما بين القوسين: تاريخ الأدب العربي: العصر العباسي الأول لشوقي حنين ١٠٠ - ١٠٤.
(٣) الحاكم: محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدوية، أبو عبد الله بن البيع الضبي النيسابوري، الشافعي، الحافظ الناقد العلامة، له مصنفات كثيرة، منها: المستدرك، تاريخ نيسابور، معرفة علوم الحديث، توفي سنة (٤٠٥ هـ) ينظر: السير (١٧/ ١٦٢)، الأعلام (٦/ ٢٢٧)
(٤) الذهبي: محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز التركماني الأصل، الدمشقي، الشافعي، أبو عبد الله، المعروف بالذهبي، أحد كبار المؤرخين والحفاظ والقراء، له تصانيف كثيرة، منها: سير أعلام النبلاء، تذكرة الحفاظ، ميزان الاعتدال، توفي سنة (٧٤٨ هـ). ينظر: ذيل تذكرة الحفاظ للحسيني (ص: ٣٤)، الأعلام (٥/ ٣٢٦).
(٥) سير أعلام النبلاء (١٣/ ٤١٤) وينظر: لسان الميزان لابن حجر (٢/ ٣٠٧).
(٦) ينظر: السير (١٣/ ٤١٤).