ويلاحظ التوكيد اللَّفظي، وفائدته تقرير المؤكَّد وتمكينه في النَّفس مبالغة في تأكيد الابتعاد عن الفتنة. وحريّ بمن ابتُلي بها أن يصبر على الأذى، فإن صبر فطوبى له، فليس أطيب حينها مِنْ الصَّبر وسعة الصَّدر!
ويلاحظ في الفتن انشغال النَّاس بها، وترك العبادة، فمن معالم الهدى حينئذ الانقطاع إلى عبادة الله، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "العِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ " (١).
وسبب فضل العبادة في الهرج وكثرة الثَّواب أنَّ أكثر النَّاس ينشغلون عنها
ويغفلون ويذهلون. فمن فرَّ بدينه واعتصم بالله تعالى، ولزم أمراً قد أغفله النَّاس،
فأجره كأجر المهاجر إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وفيه فضيلة ظاهرة للمهاجرين، وما فازوا به مِن الأجر العظيم.
وقد جاء فضل الهجرة صريحاً في الكتاب والسُّنَّة، فمّما جاء في التَّنزيل، قوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (١٠٠)} النّساء. وممَّا جاء في السُّنَّة ما أخرجه مسلم عن ابْنِ شَمَاسَةَ المَهْرِيِّ من حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - عندما جاء يبايع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأراد أن يشترط أن يُغْفَرَ له، فقال له النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
" أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا،
(١) مسلم "صحيح مسلم بشرح النّووي" (م ٩/ج ١٨/ص ٨٨) كتاب الفتن.