من يرجع العام إلى أهله ... فما أكيل السبع بالراجع (١)
{ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلّى (٨)}
{ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ} يعني محمدا صلى الله عليه وسلم والخطاب لقريش وهو جواب القسم، والضلال:
نقيض الهدى، والغي: نقيض الرشد؛ أي: إن صاحبكم مهتد، وليس بضال كما زعمتم وليس ما يأتيكم به من القرآن شيئا يأتيكم به من جهة نفسه، إنما هو {وَحْيٌ يُوحى} ويحتج بهذه الآية من لا يجوز الاجتهاد، ويجاب بأن الله تعالى إذا سوغ لهم الاجتهاد كان الاجتهاد وما يترتب عليه كله وحيا. {شَدِيدُ الْقُوى} ملك شديدة قواه، فمن قوته أنه قلع مدائن قوم لوط ثم قلبها عليهم، وصاح صيحة بثمود فأصبحوا في ديارهم جاثمين، وكان صعوده إلى السماء ونزوله على الأنبياء في أسرع وقت، ورأى إبليس يكلم عيسى على عقبة من عقبات الأرض المقدسة فنفخه نفخة فألقاه في أقصى جبل بالهند.
{ذُو مِرَّةٍ} ذو قوة شديدة {فَاسْتَوى} على كمال قوته، وكان ينزل في صورة دحية، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم التمس منه أن يراه على صورته التي خلق عليها فتمثل له في أفق السماء من جانب المشرق فسد الأفق. وقيل: ما رآه أحد على صورته التي خلق عليها إلا محمد صلى الله عليه وسلم رآه على هيئته مرتين؛ مرة في السماء ومرة في الأرض (٢). {ثُمَّ دَنا} من رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَتَدَلّى} أي: فتعلق به في الهواء، ومنه: تدلت الثمرة، ودلى رجليه في السرير، والدواني: الثّمر المعلقة، وفي المثل: هو كالقرلى؛ إن رأى خيرا تدلى، وإن لم ير شيئا تعلى (٣).
{فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ}
(١) ينظر البيت في: الكشاف للزمخشري (٤/ ٤١٨)، وذكره الأصبهاني في دلائل النبوة (١/ ٢٢٠) وفيه:
فما أكيل الليث بالراجع.
(٢) رواه البخاري في صحيحه رقم (٤٤٧٧)، ومسلم رقم (٢٥٩).
(٣) ينظر في: لسان العرب (قرل) وفيه: "كن حذرا كالقرلى إن رأى خيرا تدلى وإن رأى شرا تولى" قال ابن منظور: "قال ابن بري: القرلى: طائر صغير من طيور الماء يصيد السمك. وقيل: إن قرلى طير من بنات الماء صغير الجرم سريع الغوص حديد الاختطاف لا يرى إلا مرفرفا على وجه الماء على جانب يهوي بإحدى عينيه إلى قعر الماء طمعا ويرفع الأخرى في الهواء حذرا".