فانثنى رأي أبي سفيان عن العود للقتال، فرجع النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة سالمين، فأنزل الله: {الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ} (١) من ها هنا لبيان الجنس، فإن كل من استجاب لله وللرسول فقد أحسن {الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} يعني أبا سفيان. {حَسْبُنَا اللهُ} كافينا الله {وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ} طاعة الرسول بالخروج.
{إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ} يخوفكم أولياءه؛ لأنه إنما يخوف المؤمنين.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} تهييج للعزيمة، وبعث للهمة. {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} إملاءنا لهم خيرا لهم. والإملاء: الإمهال. {حَتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} فتبين طاعة المطيع وعصيان العاصي. {وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ} فيطلعه على ما يشاء من غيوبه.
{هُوَ خَيْراً} «هو» فصل أو عماد، وفي الحديث الصحيح: «ما من صاحب مال لا يؤدي زكاته إلا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع يأخذ بلهزمتيه، يعني: شدقيه، ويقول: أنا مالك، أنا كنزك، حتى يقضى بين الناس ثم تلا: {سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ} (٢٩ /أ) الآية» (٢).
لما نزل {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً} قالت اليهود: أفقير ربك يا محمد حتى يطلب منا القرض، فنزلت هذه الآية. وهذا جهل من اليهود، أو تجاهل؛ لأن الله - تعالى - إنما شبه ما يعطى في سبيل الله بالقرض؛ لأنه يعطيه ليأخذ بدله وما يلزم من تشبه الشيء بالشيء من وجه أن يشبهه من كل الوجوه. لما كانت أكثر الأعمال تزاول بالأيدي قيل:
{فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} الشورى: ٣٠ ولو كان الفعل مكتسبا بغير اليد.
{ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣)}
{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ}
(١) رواه البخاري في صحيحه رقم (٤٠٧٧).
(٢) رواه البخاري في صحيحه رقم (٤٦٥٩، ٤٥٦٥، ١٤٠٣)، ومسلم رقم (٩٨٧) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.