فى خطاب الرسل إياهم فلا يجيبونهم ولا يعقلون ما يراد بهم وهذا مناسب وكل على ما يجب.
فإن قيل أما تمثيل الكفار وتشبيههم بالغنم فيما ذكر فقد أفصح ذلك قوله تعالى: "أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام " فقد وضح هذا ما ذكرته إلا أن آية البقرة إنما ورد فيها ببادى سياق الكلام وظاهره تشبيه الكفار بالنعاق بالغنم لا بالغنم فكيف يرجع تقدير الآية إلى ما ذكرت؟
فالجواب: أن إيجاز الكلام يقتضى حذف ما يفهمه السياق اختصاراً فالتقدير فى الآية ما مر من الإشارة إلى التشبيه بالطرفين ومنه قول الشاعر:
وإنى لتعرونى لذكراك فترة كما انتفض العصفور بلله القطر
فشبه فى ظاهر الكلام ما يعروه من الفترة بانتفاض العصفور وليس مراده هذا وإنما يريد تشبيه ما يعروه بما يعرو العصفور بعد ما يدركه من بل المطر من الفترة وأنه ينتفض عندها كما ينتفض العصفور فحذف فى كل من الطرفين ما أثبت نظيره.
فالتقدير فى البيت: وإن لتعرونى لذكراك فترة فانتفض كما تعرو العصفور فترة فينتفض فشبه ما يعروه بما يعرو العصفور والانتفاض بالانتفاض وعلى هذا حمل سيبويه الآية قال: "لم يشبهوا بما ينعق وإنما شبهوا بالمنعوق به " وإنما المعنى: مثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به الذين لا يسمع.
قال سيبويه: "ولكنه جاء على سعة الكلام والإيجاز لعلم المخاطب بالمعنى " وهذا تقدير معنى الآية.
فإن قلت فكيف تقدير الإعراب؟
قلت: الأقرب فيه أن يكون على حذف مضاف أى ومثل داعى الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع وعلى هذا حمله أكثر الناس وان شئت جعلت ما قدرنا عليه المعنى تقديراً للمعنى والإعراب وقد أخذه على ذلك جملة من شيوخنا ومن قبلهم.
الآية الخامسة:
قوله تعالى: "وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) " وفى سورة يونس: "أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين "، وفى سورة هود: "أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ".
يسأل عن قوله فى الأولى: "من مثله " وفى الثانية: "مثله " وما الفرق بين الموضعين؟ ولم قيل فى سورة هود بعشر سور؟ ولم وصف بمفتريات؟ ولم قال فى البقرة: "فادعوا شهدائكم " وفى الموضعين الآخريين: "من استطعتم " فهذه أربع سؤالات.