النّظر، فتبعتها وقلت لها: تأكلين الميتة! فقالت: يا أبا عبد الله، ألا تسألنى؟ قال:
فوقع كلامها فى قلبى، فألححت عليها، فقالت: قد أحوجتنى إلى هتك سترى، وكشف سرّى، أنا امرأة شريفة، مات زوجى، وترك أربعة/بنات يتامى، وليس يسترنا إلاّ الحيطان، ولنا أربعة أيّام ما أكلنا شيئا، فخرجت أتسبّب لهنّ فى شئ، فلم أجد غير هذه البطّة، فأخذتها لأصلحها وأحملها إلى بناتى فيأكلنها. فقلت: افتحى حجرك. ففتحته، فصببت الدّنانير فيه، ونزع الله من قلبى شهوة الحجّ فى تلك السّنة، وعدت إلى بلدى، وأقمت حتى عاد الناس من الحجّ، فخرجت أتلقّاهم، فجعلت كلّ من أقول له: قبل الله حجّك. يقول: وأنت قبل الله حجّك. وأكثر علىّ الناس، وبتّ متعجّبا، فرأيت رسول الله ﷺ فى المنام، فقال لى: يا ابن المبارك، لا تعجب، فإنّك أغثت ملهوفة من ولدى، فسألت الله أن يخلق على صورتك ملكا يحجّ عنك إلى يوم القيامة، وهو يحجّ عنك، فإن شئت أن تحجّ، وإن شئت أن لا تحجّ.
وروى عن محمد بن فضل بن عياض، أنّه قال: رأيت عبد الله بن المبارك فى المنام، فقلت: أىّ العمل، وفى رواية: أىّ الأعمال وجدت أفضل؟ قال: الأمر الذى كنت فيه. قلت: الرّباط والجهاد؟ قال: نعم. قلت: فأىّ شئ صنع بك؟ وفى رواية:
صنع بك ربّك؟ قال: غفر لى مغفرة تتبعها مغفرة. وفى رواية: ما بعدها مغفرة، وكلّمتنى امرأة من أهل الجنة وامرأة من الحور العين.
وروى أنّ بعض الصّلحاء رأى فى منامه، كأنّ غمامة على السماء مكتوبا عليها سطر:
من أراد النّجاة، فعليه بكتب عبد الله بن المبارك.
وفى «تهذيب الأسماء واللّغات» (١)، للإمام النّووىّ، فى ترجمة ابن المبارك، وروينا عن عبثر (٢) بن القاسم، قال: لمّا قدم هارون الرّشيد الرّقّة، أشرفت أمّ ولد له من قصر، فرأت الغبرة قد ارتفعت، والبغال قد تقطّعت، وانجفل الناس، فقالت: ما هذا؟ قالوا: عالم من خراسان، يقال له ابن المبارك. قالت: هذا والله الملك، لا ملك هارون الذى لا يجتمع له الناس إلاّ بالسّوط والخشب.
قال عمّار بن الحسن يمدح ابن المبارك، رضى الله تعالى عنه (٣):
(١) تهذيب الأسماء واللغات ١/ ٢٨٦/١. وانظر: تاريخ بغداد ١٥٧،١٠/ ١٥٦.
(٢) فى النسخ: «عمر».
(٣) تاريخ بغداد ١٠/ ١٦٣، تهذيب الأسماء واللغات ٢٨٦،١/ ٢٨٥/١، سير أعلام النبلاء ٨/ ٣٤٦.