الحنفيّة، أنّ غالب الخلفاء العبّاسية المتقدّمين كانوا يعتقدون مذهب الإمام الأعظم، ويأخذون بأكثر أقواله، وكان أكثر قضاتهم من العلماء الحنفيّة، ولمّا احتمل واحتمل، وكان ابن المعتزّ من محاسن الزمان، وأدباء الأوان، وممّن انتهت إليه صناعة الشّعر، أحببنا أن نأخذ فى ذلك بالأحوط، ونجمّل كتابنا هذا بمحاسنه، التى حقّها أن تكتب بسواد الأبصار على بياض الخدود، فنقول وبالله المستعان، وعليه التّكلان.
قال السيّد عبد الرحيم العبّاسىّ: هو أوّل من صنّف فى صنعة الشّعر، وصنع كتاب «البديع»، وهو أشعر بنى هاشم على الإطلاق، وأشعر الناس فى الأوصاف والتّشبيهات، وكان يقول: إذا قلت «كأنّ» ولم آت بعدها بالتّشبيه، ففضّ الله فاى.
حدّث جعفر بن قدامة، قال (١): كنت عند ابن المعتزّ يوما، وعنده شرّة (٢)، يعنى اسم محبوبته، وكان يحبّها ويهيم بها، فخرجت علينا من صدر البستان فى زمن الربيع، وعليها غلالة معصفرة، وفى يدها جنابى من باكورة باقلاّ، والجنابى: لعبة للصّبيان، فقالت له: يا سيّدى، تلعب معى جنابى. فالتفت إلينا، وقال على بديهته، غير متوقّف ولا مفكّر (٣):
فديت من يتمشّى فى معصفرة … عشيّة فسقانى ثم حيّانى
وقال تلعب جنّابى فقلت له … من جدّ بالوصل لم يلعب بهجران (٤)
وأمر، فغنّى فيه.
وحدّث جعفر أيضا، قال (٥): كان لعبد الله بن المعتزّ غلام يحبّه، وكان يغنّى غناء صالحا، وكان يدعى بنشوان، فجدّر، وجزع عبد الله لذلك جزعا شديدا، ثم عوفى، ولم يؤثّر الجدرىّ فى وجهه أثرا قبيحا، فدخلت عليه ذات يوم، فقال: يا أبا القاسم قد عوفى فلان بعدك، وخرج أحسن ممّا كان، وقلت فيه بيتين، وغنّت هزار (٦) فيهما
(١) الأغانى ٢٨١،١٠/ ٢٨٠، ومعاهد التنصيص ٢/ ٣٩.
(٢) فى الأغانى: «نشر». وفى المعاهد: «سرية». وانظر المعاهد أيضا ٢/ ٣٧.
(٣) البيتان فى ديوانه ١/ ٩٧.
(٤) شدد «جنابى» للوزن.
(٥) الأغانى ١٠/ ٢٨١، ومعاهد التنصيص ٢/ ٣٩.
(٦) فى النسخ والمعاهد: «زرياب». والتصحيح من: الأغانى.