إنّا إلى الله فيما لا يزال لنا … من القضاء ومن تلوين دنيانا
دنيا نراها ترينا من تصرّمها … ما لا يدوم مصافاة وأحزانا
ونحن فيها كأنّا لا يزايلنا … عيش فأحياؤنا يبكون موتانا
وروى الخطيب فى «تاريخه» (١): أن هارون الرّشيد كان له جارية غلاميّة، تصبّ على يده، وتقف على رأسه، وكان المأمون يعجب بها وهو أمرد، فبينا هى تصبّ على هارون من إبريق معها، فأشار إليها المأمون بقبلة، فزبرته بحاجبها، وأبطأت عن الصّبّ، فنظر إليها هارون، فقال: ما هذا؟ فتلكّأت عليه-ضعى ما معك، علىّ كذا إن لم تخبرينى لأقتلنّك. فقالت: أشار إلىّ عبد الله بقبلة، فالتفت إليه، وإذا هو قد نزل به من الحياء والرّعب/ما رحمه منه، فاعتنقه، وقال: أتحبّها؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين. فقال: قم فاخل بها فى تلك القبّة. فقام ففعل، فقال له هارون: قل فى هذا شعرا. فأنشأ يقول:
ظبى كنيت بطرفى … عن الضّمير إليه
قبّلته من بعيد … فاعتلّ من شفتيه
وردّ أخبث ردّ … بالكسر من حاجبيه
فما برحت مكانى … حتى قدرت عليه
وعن ابن أبى دواد، أنّه قال (٢): دخل رجل من الخوارج على المأمون، فقال: ما حملك على خلافنا؟ قال: آية فى كتاب الله تعالى. قال: وما هى؟ قال: قوله تعالى ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ﴾ (٣). فقال له المأمون: ألك علم بأنّها منزّلة؟ قال: نعم. قال: وما دليلك؟ قال: إجماع الأمّة. قال: فكما رضيت بإجماعهم فى التّنزيل، فارض بإجماعهم فى التّأويل. قال: صدقت يا أمير المؤمنين.
وكان المأمون يقول (٢): غلبة الحجّة أحبّ إلىّ من غلبة القدرة؛ لأنّ غلبة القدرة تزول بزوالها، وغلبة الحجّة لا يزيلها شئ.
ومن مكارم أخلاقه (٤)، ما حكاه يحيى بن أكتم، قال: بتّ ليلة عند المأمون،
(١) تاريخ بغداد ١٠/ ١٨٥.
(٢) تاريخ بغداد ١٠/ ١٨٦.
(٣) سورة المائدة:٤٤.
(٤) تاريخ بغداد ١٠/ ١٨٧.