فأدّب، فمات فى الحال، فكتب إلى المعتضد من المجلس: اعلم يا أمير المؤمنين، أطال الله بقاك، أنّ خصمان حضرانى، فأجرى أحدهما ما أوجب عليه الأدب عندى، فأمرت بتأديبه، فأدّب فمات، فإن رأى أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، أن يأمر بحمل الدّية لأحملها إلى ورثته فعل. قال: فعاد الجواب إليه، بأنّا قد أمرنا بحمل الدّية إليك.
وحمل إليه عشرة آلاف درهم، فأحضر ورثة/المتوفّى، ودفعها إليهم.
قلت: إن صحّ هذا النّقل عن أبى خازم، فهو رأى انفرد به عن أبى حنيفة، رضى الله تعالى عنه، فإنّ مذهبه أنّ من عزّره الإمام، فدمه هدر؛ لأنّه فعل ما فعل بأمر الشّرع، وفعل المأمور لا يتقيّد بشرط السّلامة، كالفصّاد، والبزّاغ (١). وهو قول مالك، وأحمد، رضى الله تعالى عنهما. وقال الشّافعىّ، رضى الله تعالى عنه: تجب الدّية فى بيت المال؛ لأنّه نفع عمله يرجع إلى العامّة، فيكون الغرم فى ماله. وأجاب أئمّتنا، رحمهم الله تعالى، بأنّه لمّا استوفى حقّ الله بأمره، صار كأنّ الله تعالى أماته من غير واسطة، فلا يجب الضّمان.
وحدّث مكرّم بن بكر (٢)، وكان من فضلاء الرجال وعلمائهم، قال: كنت فى مجلس أبى خازم، فتقدّم إليه رجل شيخ، ومعه غلام حدث، فادّعى الشيخ عليه ألف دينار عينا دينا، فقال له: ما تقول؟ فأقرّ، فقال للشيخ: ما تشاء؟ قال: حبسه.
فقال للغلام: قد سمعت، فهل لك أن تنقد البعض، ونسأله إنظارك؟ فقال: لا.
فقال: الشيخ: إن رأى القاضى أن يحبسه. قال: فتفرّس أبو خازم فيهما ساعة، ثم قال: تلازما إلى أن انظر بينكما فى مجلس آخر. قال: فقلت لأبى خازم، وكانت بيننا أنسة (٣)، لم أخّر القاضى حبسه؟ فقال: ويحك، إنّي أعرف فى الأحوال من الخصومة وجه المحقّ من المبطل، وقد صارت لى بذلك دربة لا تكاد تخطئ، وقد وقع لى أنّ سماحة هذا بالإقرار هى عن بليّة، وأمر يبعد عن الحقّ، وليس فى تلازمهما بطلان، ولعلّه ينكشف لى من أمرهما ما أكون معه على وثيقة ممّا أحكم به بينهما، أما رأيت قلّة تعاصيهما (٤) فى المناظرة، وقلّة اختلافهما، وسكون طباعهما، مع عظم
(١) بزغ الحاجم والبيطار: شرط.
(٢) تاريخ بغداد ٦٦،١١/ ٦٥.
(٣) الأنسة: ضد الوحشة.
(٤) فى النسخ: «تقاضيهما».