فَحِينَئِذٍ لَا حَاجَةَ إلَى غَسْلِهِمَا ثَانِيًا إلَّا إذَا كَانَ بِبَدَنِهِ خَبَثٌ وَلَعَلَّ الْقَائِلِينَ بِتَأْخِيرِ غَسْلِهَا إنَّمَا اسْتَحَبُّوهُ لِيَكُونَ الْبَدْءُ وَالْخَتْمُ بِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَقَالُوا: لَوْ تَوَضَّأَ أَوَّلًا لَا يَأْتِي بِهِ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ وُضُوءَانِ لِلْغُسْلِ اتِّفَاقًا، أَمَّا لَوْ تَوَضَّأَ بَعْدَ الْغُسْلِ وَاخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ عَلَى مَذْهَبِنَا أَوْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِصَلَاةٍ كَقَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ فَيُسْتَحَبُّ (ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ) عَلَى كُلِّ بَدَنِهِ ثَلَاثًا مُسْتَوْعِبًا مِنْ الْمَاءِ الْمَعْهُودِ فِي الشَّرْعِ لِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَهُوَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ، وَقِيلَ: الْمَقْصُودُ عَدَمُ
ــ
رد المحتار
وَاعْلَمْ أَنَّهُ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي تَجْزِيءِ الطَّهَارَةِ وَعَدَمِهِ. وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ أَنَّهُ لَوْ تَمَضْمَضَ الْجُنُبُ أَوْ غَسَلَ يَدَيْهِ هَلْ يَحِلُّ لَهُ الْقِرَاءَةُ وَمَسُّ الْمُصْحَفِ؟ فَعَلَى رِوَايَةِ التَّجَزُّؤِ نَعَمْ، وَعَلَى رِوَايَةِ عَدَمِهِ لَا وَهِيَ الصَّحِيحَةُ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْجَنَابَةِ مَوْقُوفٌ عَلَى غَسْلِ الْبَاقِي، وَمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ مِنْ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إلَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْبَحْرِ فَيَصِحُّ بِنَاؤُهُ عَلَى كُلٍّ مِنْ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ فَافْهَمْ. ثُمَّ اعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ يَصِحُّ دَفْعًا لِلْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَقْدِيمِ غَسْلِهِمَا عَلَى رِوَايَةِ نَجَاسَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ أَيْضًا إذْ لَا يُحْكَمُ بِاسْتِعْمَالِهِ وَنَجَاسَتِهِ إلَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى غَسْلِهِمَا ثَانِيًا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا، وَلِصَاحِبِ النَّهْرِ هُنَا كَلَامٌ فِيهِ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ أَوْضَحْنَاهَا فِيمَا عَلَّقْنَاهُ عَلَى الْبَحْرِ.
(قَوْلُهُ: إلَّا إذَا كَانَ إلَخْ) أَيْ فَيَلْزَمُهُ إعَادَةُ غَسْلِهِمَا لِلنَّجَاسَةِ فَقَطْ.
(قَوْلُهُ: وَلَعَلَّ الْقَائِلِينَ إلَخْ) ذَكَرَهُ فِي الْبَحْرِ بَحْثًا وَنَقَلَهُ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ الْقُرْطُبِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى هَذَا يَغْسِلُهُمَا ثَانِيًا مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَصَابَهُمَا طِينٌ أَوْ كَانَتَا فِي مَجْمَعِ الْمَاءِ أَوَّلًا وَلَا.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ إلَخْ) قَالَ الْعَلَّامَةُ نُوحٌ أَفَنْدِي: بَلْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَتِهِ. أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَوَضَّأَ بَعْدَ الْغُسْلِ فَلَيْسَ مِنَّا» اهـ تَأَمَّلْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَدَمَ اسْتِحْبَابِهِ لَوْ بَقِيَ مُتَوَضِّئًا إلَى فَرَاغِ الْغُسْلِ، فَلَوْ أَحْدَثَ قَبْلَهُ يَنْبَغِي إعَادَتُهُ. وَلَمْ أَرَهُ، فَتَأَمَّلْ.
(قَوْلُهُ: وَاخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ) كَذَا فِي الْبَحْرِ وَقَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي بَحْثِ الْوُضُوءِ.
(قَوْلُهُ: ثُمَّ يُفِيضَنَّ) أَتَى بِثُمَّ لِلْإِشَارَةِ إلَى التَّرْتِيبِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ ثُمَّ يَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ ثُمَّ يُفِيضُ لِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّ فِعْلَهُمَا فِي الْوُضُوءِ كَافٍ عَنْ فِعْلِهِمَا فِي الْغُسْلِ؛ فَالسُّنَّةُ نَابَتْ مَنَابَ الْفَرْضِ ط. وَمَعْنَى يُفِيضُ: يَصُبُّ. قَالَ فِي الدُّرَرِ: حَتَّى لَوْ لَمْ يَصُبَّ لَمْ يَكُنْ الْغُسْلُ مَسْنُونًا وَإِنْ زَالَ الْحَدَثُ اهـ وَهَذَا لَوْ كَانَ فِي مَاءٍ رَاكِدٍ، أَمَّا لَوْ مَكَثَ فِي مَاءٍ جَارٍ قَامَ الْجَرَيَانُ مَقَامَ الصَّبِّ كَمَا عُلِمَ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ قَرِيبًا.
(قَوْلُهُ: عَلَى كُلِّ بَدَنِهِ) زَادَ كُلَّ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ عَدَمِ إعَادَةِ غَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ لِرَفْعِ الْحَدَثِ عَنْهَا ط. أَقُولُ: لَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ يُسَنُّ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ عِبَارَاتِهِمْ، وَنَظِيرُهُ مَا مَرَّ فِي الْوُضُوءِ مِنْ أَنَّهُ يُسَنُّ إعَادَةُ غَسْلِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ غَسْلِ الذِّرَاعَيْنِ.
(قَوْلُهُ: ثَلَاثًا) الْأُولَى فَرْضٌ وَالثِّنْتَانِ سُنَّتَانِ عَلَى الصَّحِيحِ سِرَاجٌ.
(قَوْلُهُ: مُسْتَوْعِبًا) أَيْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ لِتَحْصُلَ سُنَّةُ التَّثْلِيثِ ط. مَطْلَبٌ فِي تَحْرِيرِ الصَّاعِ وَالْمُدِّ وَالرِّطْلِ
(قَوْلُهُ: وَهُوَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ) أَيْ بِالْبَغْدَادِيِّ، وَهِيَ صَاعٌ عِرَاقِيٌّ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ، كُلُّ مُدٍّ رِطْلَانِ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَالصَّاعُ الْحِجَازِيُّ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ، وَبِهِ أَخَذَ الصَّاحِبَانِ وَالْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، فَالْمُدُّ حِينَئِذٍ رِطْلٌ وَثُلُثٌ، وَالرِّطْلُ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ دِرْهَمًا وَقِيلَ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَتَمَامُهُ فِي الْحِلْيَةِ. قُلْت: وَالصَّاعُ الْعِرَاقِيُّ نَحْوُ نِصْفِ مُدٍّ دِمَشْقِيٍّ، فَإِذَا تَوَضَّأَ وَاغْتَسَلَ بِهِ فَقَدْ حَصَّلَ السُّنَّةَ.
(قَوْلُهُ: وَقِيلَ الْمَقْصُودُ إلَخْ) الْأَصْوَبُ حَذْفُ قِيلَ لِمَا فِي الْحِلْيَةِ أَنَّهُ نَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مَا يُجْزِئُ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِمِقْدَارٍ. وَمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِنْ أَنَّ أَدْنَى مَا يَكْفِي الْغُسْلَ صَاعٌ، وَفِي الْوُضُوءِ مُدٌّ لِلْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ