وَأَحْدَثَ السِّجْنَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بَنَاهُ مِنْ قَصَبٍ وَسَمَّاهُ نَافِعًا فَنَقَبَهُ اللُّصُوصُ فَبَنَى غَيْرَهُ مِنْ مَدَرٍ وَسَمَّاهُ مُخَيَّسًا بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتُكْسَرُ مَوْضِعُ التَّخْسِيسِ وَهُوَ التَّذْلِيلُ وَفِيهِ يَقُولُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
أَلَا تَرَانِي كَيِّسًا مُكَيَّسَا ... بَنَيْت بَعْدَ نَافِعٍ مُخَيِّسَا
حِصْنًا حَصِينًا وَأَمِينًا كَيِّسَا
(صِفَتُهُ أَنْ يَكُونَ بِمَوْضِعٍ لَيْسَ بِهِ فِرَاشٌ وَلَا وِطَاءٌ) لِيُضْجِرَ فَيُوقَى وَمُفَادُهُ أَنَّهُ لَوْ جِيءَ لَهُ بِهِ مُنِعَ مِنْهُ (وَلَا يُمَكَّنُ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ لِلِاسْتِئْنَاسِ إلَّا أَقَارِبُهُ وَجِيرَانُهُ) لِاحْتِيَاجِهِ لِلْمُشَاوَرَةِ (وَلَا يَمْكُثُونَ عِنْدَهُ طَوِيلًا) وَمُفَادُهُ أَنَّ زَوْجَتَهُ لَا تُحْبَسُ مَعَهُ لَوْ هِيَ الْحَابِسَةَ لَهُ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَفِي الْمُلْتَقَى يُمَكَّنُ
ــ
رد المحتار
قَوْلُهُ وَأَحْدَثَ السِّجْنَ عَلِيٌّ) أَيْ أَحْدَثَ بِنَاءَ سِجْنٍ خَاصٍّ فَلَا يُنَافِي مَا قَالُوا أَيْضًا مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ سِجْنٌ، إنَّمَا كَانَ يَحْبِسُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ الدِّهْلِيزِ حَتَّى اشْتَرَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - دَارًا بِمَكَّةَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَاِتَّخَذَهُ مَحْبِسًا.
(قَوْلُهُ: مِنْ مَدَرٍ) بِالتَّحْرِيكِ قِطَعُ الطِّينِ الْيَابِسِ وَالْحِجَارَةِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ.
(قَوْلُهُ: بِفَتْحِ الْيَاءِ) أَيْ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ مُشَدَّدَةً وَالْعَجَبُ مِمَّا فِي الْبَحْرِ وَالنَّهْرِ وَالْمِنَحِ مِنْ ضَبْطِهِ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي الْقَامُوسِ فِي الْأَجْوَفِ الْيَائِيِّ فَقَالَ: الْمُحَيَّسُ كَمُعَظَّمٍ السِّجْنُ وَسِجْنٌ بَنَاهُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.
(قَوْلُهُ: كَيِّسًا) قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ الْكَيْسُ وِزَانُ فَلْسٍ الظُّرْفُ وَالْفِطْنَةُ وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ الْعَقْلُ وَيُقَالُ إنَّهُ مُخَفَّفٌ مِنْ كَيَسَ مِثْلَ هَيَنَ وَهَيَّنَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ كَاسَ كَيْسًا مِنْ بَابِ بَاعَ وَأَمَّا الْمُثْقَلُ فَاسْمُ فَاعِلٍ وَالْجَمْعُ أَكْيَاسٌ مِثْلُ جِيدٍ وَأَجْيَادٍ اهـ. وَفِي الْفَتْحِ: الْكَيْسُ أَيْ مُخَفَّفًا حُسْنُ التَّأَنِّي فِي الْأُمُورِ وَالْكَيِّسُ الْمَنْسُوبُ إلَيْهِ الْكَيْسُ اهـ.
(قَوْلُهُ: وَأَمِينًا) أَرَادَ بِهِ السَّجَّانَ الَّذِي نَصَّبَهُ فِيهِ، فَتْحٌ وَعَلَيْهِ فَعَطْفُهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ نَظِيرُهُ عَلَفْتهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا فَيُرَادُ بِقَوْلِهِ: بَنَيْت اتَّخَذْت وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ يَصِحُّ كَوْنُهُ وَصْفًا لِمُخَيِّسًا كَاَلَّذِي قَبْلَهُ لَا يُنَاسِبُهُ قَوْلُ كَيِّسًا فَافْهَمْ.
(قَوْلُهُ: صِفَتُهُ) الضَّمِيرُ لِلْحَبْسِ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ، فَلِذَا قَالَ أَنْ يَكُونَ بِمَوْضِعٍ أَيْ فِي مَوْضِعٍ فَافْهَمْ.
(قَوْلُهُ: وَلَا وِطَاءٌ) عَلَى وَزْنِ كِتَابٍ الْمِهَادُ الْوَطِيءِ مِصْبَاحٌ، وَفِيهِ وَالْمَهْدُ وَالْمِهَادُ الْفِرَاشُ وَفِي الْقَامُوسِ عَنْ الْكِسَائِيّ أَنَّ الْوِطَاءَ خِلَافُ الْغِطَاءِ. قُلْت: فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمِهَادُ الْوَطِيءُ أَيْ اللَّيِّنُ السَّهْلُ فَهُوَ أَخَصُّ مِمَّا قَبْلَهُ وَكَذَا إنْ أُرِيدَ بِهِ مَا يَنَامُ عَلَيْهِ وَهُوَ خِلَافُ الْغِطَاءِ.
(قَوْلُهُ: وَمُفَادُهُ) أَيْ مُفَادُ قَوْلِهِ لِيَضْجَرَ.
(قَوْلُهُ: وَلَا يُمَكَّنُ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ مَعَ التَّشْدِيدِ.
(قَوْلُهُ: وَلَا يَمْكُثُونَ عِنْدَهُ طَوِيلًا) أَيْ بِحَيْثُ يَحْصُلُ لَهُ الِاسْتِئْنَاسُ بِهِمْ بَلْ بِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ مِنْ الْمُشَاوَرَةِ مَطْلَبُ لَا تُحْبَسُ زَوْجَتُهُ مَعَهُ لَوْ حَبَسْته.
(قَوْلُهُ: وَمُفَادُهُ) أَيْ مُفَادُ قَوْلِهِ لِلِاسْتِئْنَاسِ وَفِي النَّهْرِ وَإِذَا احْتَاجَ لِلْجِمَاعِ دَخَلَتْ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ إنْ كَانَ فِيهِ مَوْضِعُ سُتْرَةٍ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ زَوْجَتَهُ لَا تُحْبَسُ مَعَهُ لَوْ كَانَتْ هِيَ الْحَابِسَةُ لَهُ وَهُوَ الظَّاهِرُ اهـ وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ بِمَا قَالَهُ الشَّارِحُ أَوْلَى مِمَّا فِي النَّهْرِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ دُخُولِ أَحَدٍ عَلَيْهِ لِلِاسْتِئْنَاسِ أَصْرَحُ بِعَدَمِ حَبْسِهَا مَعَهُ إذْ فِي حَبْسِهَا مَعَهُ غَايَةُ الِاسْتِئْنَاسِ لَهُ مَعَ كَوْنِ الْمَقْصُودِ مِنْ ذَلِكَ الضَّجَرَ لِيُوَفِّيَ دَيْنَهُ، وَإِذَا كَانَتْ هِيَ الْحَابِسَةُ لَهُ وَقُلْنَا بِجَوَازِ حَبْسِهَا مَعَهُ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بَلْ يَحْصُلُ ضِدُّهُ وَهُوَ ضَجَرُهَا لِتُخْرِجَهُ مِنْ الْحَبْسِ حَتَّى تَخْرُجَ مَعَهُ، فَفِي ذَلِكَ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تُحْبَسُ مَعَهُ لَوْ هِيَ الْحَابِسُ، وَلَيْسَ فِيمَا قَالَهُ فِي النَّهْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فَلِذَا عَدَلَ الشَّارِحُ عَنْ كَلَامِ النَّهْرِ، فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي عُدُولِهِ عَنْهُ خَلَلٌ بَلْ خَلَلٌ فِي مُتَابَعَتِهِ لَهُ فَافْهَمْ ثُمَّ إنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ إنَّهَا تُحْبَسُ مَعَهُ وَفِي الْبَحْرِ عَنْ الْخُلَاصَةِ: فَإِذَا حَبَسَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا، لَا تُحْبَسُ مَعَهُ وَفِيهِ عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ، وَغَيْرِهَا إذَا خِيفَ عَلَيْهَا الْفَسَادُ اسْتَحْسَنَ الْمُتَأَخِّرُونَ أَنْ تُحْبَسَ مَعَهُ اهـ.