وَمُعْتَقَدِ خُصُومِنَا. قُلْنَا وُجُوبًا الْحَقُّ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ وَالْبَاطِلُ مَا عَلَيْهِ خُصُومُنَا
وَفِيهَا: الْعُلُومُ ثَلَاثَةٌ: عِلْمٌ نَضِجَ وَمَا احْتَرَقَ، وَهُوَ عِلْمُ النَّحْوِ وَالْأُصُولِ. وَعِلْمٌ لَا نَضِجَ وَلَا احْتَرَقَ، وَهُوَ عِلْمُ الْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ. وَعِلْمٌ نَضِجَ وَاحْتَرَقَ، وَهُوَ عِلْمُ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ. وَقَدْ قَالُوا: الْفِقْهُ زَرَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَسَقَاهُ عَلْقَمَةُ، وَحَصَدَهُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ، وَدَاسَهُ حَمَّادٌ،
ــ
رد المحتار
الْمَسَائِلِ الْفَرْعِيَّةِ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ بِلَا تَقْلِيدٍ لِأَحَدٍ وَهُوَ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهُمْ الْأَشَاعِرَةُ وَالْمَاتُرِيدِيَّةِ، وَهُمْ مُتَوَافِقُونَ إلَّا فِي مَسَائِلَ يَسِيرَةٍ أَرْجَعَهَا بَعْضُهُمْ إلَى الْخِلَافِ اللَّفْظِيِّ كَمَا بُيِّنَ فِي مَحَلِّهِ.
(قَوْلُهُ: وَمُعْتَقَدِ خُصُومِنَا) أَيْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُكَفِّرَةِ وَغَيْرِهَا كَالْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَوْ نَفْيِ الصَّانِعِ أَوْ عَدَمِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ، وَالْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَعَدَمِ إرَادَتِهِ تَعَالَى الشَّرَّ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
(قَوْلُهُ: عِلْمٌ نَضِجَ وَمَا احْتَرَقَ) الْمُرَادُ بِنُضْجِ الْعِلْمِ تَقَرُّرُ قَوَاعِدِهِ وَتَفْرِيعُ فُرُوعِهَا وَتَوْضِيحُ مَسَائِلِهِ، وَالْمُرَادُ بِاحْتِرَاقِهِ بُلُوغُهُ النِّهَايَةَ فِي ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّحْوَ وَالْأُصُولَ لَمْ يَبْلُغَا النِّهَايَةَ فِي ذَلِكَ أَفَادَهُ ح. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُصُولِ أُصُولُ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّ أُصُولَ الْعَقَائِدِ فِي غَايَةِ التَّحْرِيرِ وَالتَّنْقِيحِ تَأَمَّلْ.
(قَوْلُهُ: وَهُوَ عِلْمُ الْبَيَانِ) الْمُرَادُ بِهِ مَا يَعُمُّ الْعُلُومَ الثَّلَاثَةَ: الْمَعَانِيَ وَالْبَيَانَ وَالْبَدِيعَ؛ وَلِذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: إنَّ مَنْزِلَةَ عِلْمِ الْبَيَانِ مِنْ الْعُلُومِ مِثْلُ مَنْزِلَةِ السَّمَاءِ مِنْ الْأَرْضِ، وَلَمْ يَقِفُوا عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ جَمِيعِهِ مِنْ بَلَاغَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَنُكَتِهِ وَبَدِيعَاتِهِ، بَلْ عَلَى النَّزْرِ الْيَسِيرِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} الإسراء: ٨٨- وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْبَلَاغَةِ ط.
(قَوْلُهُ: وَالتَّفْسِيرِ) أَيْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ فَقَدْ ذَكَرَ السُّيُوطِيّ فِي الْإِتْقَانِ أَنَّ الْقُرْآنَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، كُلُّ حَرْفٍ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ جَبَلٍ قَافٍ، وَكُلُّ آيَةٍ تَحْتَهَا مِنْ التَّفَاسِيرِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى ط.
(قَوْلُهُ: عِلْمُ الْحَدِيثِ) لِأَنَّهُ قَدْ تَمَّ الْمُرَادُ مِنْهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُحَدِّثِينَ جَزَاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى خَيْرًا وَضَعُوا كُتُبًا فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ وَنَسَبِهِمْ وَالْفَرْقِ بَيْنَ أَسْمَائِهِمْ، وَبَيَّنُوا سَيِّئَ الْحِفْظِ مِنْهُمْ وَفَاسِدَ الرِّوَايَةِ مِنْ صَحِيحِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ حَفِظَ الْمِائَةَ أَلْفٍ وَالثَّلَثَمِائَةِ، وَحَصَرُوا مَنْ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الصَّحَابَةِ، وَبَيَّنُوا الْأَحْكَامَ وَالْمُرَادَ مِنْهَا فَانْكَشَفَتْ حَقِيقَتُهُ ط.
(قَوْلُهُ: وَالْفِقْهُ) لِأَنَّ حَوَادِثَ الْخَلَائِقِ عَلَى اخْتِلَافِ مَوَاقِعِهَا وَتَشَتُّتَاتِهَا مَرْقُومَةٌ بِعَيْنِهَا أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، بَلْ قَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أُمُورٍ لَا تَقَعُ أَصْلًا أَوْ تَقَعُ نَادِرًا، وَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا فَنَادِرٌ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْصُوصًا غَيْرَ أَنَّ النَّاظِرَ يَقْصُرُ عَنْ الْبَحْثِ عَنْ مَحَلِّهِ أَوْ عَنْ فَهْمِ مَا يُفِيدُهُ مِمَّا هُوَ مَنْصُوصٌ بِمَفْهُومٍ أَوْ مَنْطُوقٍ ط، أَوْ يُقَالُ الْمُرَادُ بِالْفِقْهِ مَا يَشْمَلُ مَذْهَبَنَا وَغَيْرَهُ فَإِنَّهُ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ أَصْلًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إحْدَاثُ قَوْلٍ خَارِجٍ عَنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ.
(قَوْلُهُ: وَقَدْ قَالُوا الْفِقْهُ) أَيْ الْفِقْهُ الَّذِي اسْتَنْبَطَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَوْ أَعَمَّ.
(قَوْلُهُ: زَرَعَهُ) أَيْ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِاسْتِنْبَاطِ فُرُوعِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ، أَحَدُ السَّابِقِينَ وَالْبَدْرِيِّينَ وَالْعُلَمَاءِ الْكِبَارِ مِنْ الصَّحَابَةِ. أَسْلَمَ قَبْلَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي التَّقْرِيبِ: وَعَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قَالَ: انْتَهَى عِلْمُ الصَّحَابَةِ إلَى سِتَّةٍ: عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأُبَيُّ وَزَيْدٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَابْنِ مَسْعُودٍ، ثُمَّ انْتَهَى عِلْمُ السِّتَّةِ إلَى عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
(قَوْلُهُ: وَسَقَاهُ) أَيْ أَيَّدَهُ وَوَضَّحَهُ عَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ النَّخَعِيّ الْفَقِيهُ الْكَبِيرُ، عَمُّ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ وَخَالُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ. وُلِدَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخَذَ الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيٍّ وَعُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَائِشَةَ.
(قَوْلُهُ: وَحَصَدَهُ) أَيْ جَمَعَ مَا تَفَرَّقَ مِنْ فَوَائِدِهِ وَنَوَادِرِهِ وَهَيَّأَهُ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ إبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ قَيْسِ بْنِ الْأَسْوَدِ أَبُو عِمْرَانَ النَّخَعِيّ الْكُوفِيُّ، الْإِمَامُ الْمَشْهُورُ الصَّالِحُ الزَّاهِدُ. رَوَى عَنْ الْأَعْمَشِ وَخَلَائِقَ تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ أَوْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ.
(قَوْلُهُ: وَدَاسَهُ) أَيْ اجْتَهَدَ فِي تَنْقِيحِهِ وَتَوْضِيحِهِ حَمَّادُ بْنُ مُسْلِمٍ الْكُوفِيُّ شَيْخُ الْإِمَامِ وَبِهِ تَخَرَّجَ. وَأَخَذَ حَمَّادٌ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْهُ، قَالَ الْإِمَامُ مَا صَلَّيْت