فَبِسَبَبِهِ صَارَ الشَّافِعِيُّ فَقِيهًا.
وَلَقَدْ أَنْصَفَ الشَّافِعِيُّ حَيْثُ قَالَ: مَنْ أَرَادَ الْفِقْهَ فَلْيَلْزَمْ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّ الْمَعَانِيَ قَدْ تَيَسَّرَتْ لَهُمْ، وَاَللَّهِ مَا صِرْت فَقِيهًا إلَّا بِكُتُبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ
وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ: رَأَيْت مُحَمَّدًا فِي الْمَنَامِ فَقُلْت لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي، ثُمَّ قَالَ: لَوْ أَرَدْت أَنْ أُعَذِّبَك مَا جَعَلْت هَذَا الْعِلْمَ فِيك، فَقُلْت لَهُ: فَأَيْنَ أَبُو يُوسُفَ؟ قَالَ: فَوْقَنَا بِدَرَجَتَيْنِ قُلْت: فَأَبُو حَنِيفَةَ؟ قَالَ: هَيْهَاتَ، ذَاكَ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ. كَيْفَ وَقَدْ صَلَّى الْفَجْرَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَحَجَّ خَمْسًا وَخَمْسِينَ حَجَّةً، وَرَأَى رَبَّهُ فِي الْمَنَامِ مِائَةَ مَرَّةٍ، وَلَهَا قِصَّةٌ مَشْهُورَةٌ. وَفِي حَجَّتِهِ الْأَخِيرَةِ اسْتَأْذَنَ حَجَبَةَ الْكَعْبَةِ بِالدُّخُولِ لَيْلًا فَقَامَ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ عَلَى رِجْلِهِ الْيُمْنَى وَوَضَعَ الْيُسْرَى عَلَى ظَهْرِهَا حَتَّى خَتَمَ نِصْفَ الْقُرْآنِ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ
ــ
رد المحتار
وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ آخِرَ الْمُقَدِّمَةِ.
وَفِي طَبَقَاتِ التَّمِيمِيِّ عَنْ شَرْحِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ لِلسَّرَخْسِيِّ أَنَّ السِّيَرَ الْكَبِيرَ آخِرُ تَصْنِيفٍ صَنَّفَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْفِقْهِ. وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ السِّيَرَ الصَّغِيرَ وَقَعَ بِيَدِ الْأَوْزَاعِيِّ إمَامِ أَهْلِ الشَّامِ فَقَالَ مَا لِأَهْلِ الْعِرَاقِ وَالتَّصْنِيفِ فِي هَذَا الْبَابِ. فَإِنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِالسِّيَرِ، فَبَلَغَ مُحَمَّدًا فَصَنَّفَ الْكَبِيرَ، فَحَكَى أَنَّهُ لَمَّا نَظَرَ فِيهِ الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ: لَوْلَا مَا ضَمَّنَهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ لَقُلْت إنَّهُ يَضَعُ الْعِلْمَ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَيَّنَ جِهَةَ إصَابَةِ الْجَوَابِ فِي رَأْيِهِ، صَدَقَ اللَّهُ تَعَالَى - {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} يوسف: ٧٦- ثُمَّ أَمَرَ مُحَمَّدٌ أَنْ يُكْتَبَ فِي سِتِّينَ دَفْتَرًا، وَأَنْ يُحْمَلَ إلَى الْخَلِيفَةِ فَأَعْجَبَهُ وَعَدَّهُ مِنْ مَفَاخِرِ أَيَّامِهِ اهـ مُلَخَّصًا.
(قَوْلُهُ: فَبِسَبَبِهِ صَارَ الشَّافِعِيُّ فَقِيهًا) أَيْ ازْدَادَ فَقَاهَةً، وَاطَّلَعَ عَلَى مَسَائِلَ لَمْ يَكُنْ مُطَّلِعًا عَلَيْهَا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا أَبْدَعَ فِي كَثْرَةِ اسْتِخْرَاجِ الْمَسَائِلِ، وَإِلَّا فَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقِيهٌ مُجْتَهِدٌ قَبْلَ وُرُودِهِ إلَى بَغْدَادَ، وَكَيْفَ يُسْتَفَادُ الِاجْتِهَادُ الْمُطْلَقُ مِمَّنْ لَيْسَ كَذَلِكَ أَفَادَهُ ح.
(قَوْلُهُ: وَاَللَّهِ مَا صِرْت فَقِيهًا) الْكَلَامُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَرُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ أَيْضًا: حَمَلْت مِنْ عِلْمِ ابْنِ الْحَسَنِ وِقْرَ بَعِيرٍ كُتُبًا. وَقَالَ: أَمَنُّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي الْفِقْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.
(قَوْلُهُ: هَيْهَاتَ) اسْمُ فِعْلٍ: أَيْ بَعُدَ مَكَانُهُ عَنِّي وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ ط.
(قَوْلُهُ: فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ) اسْمٌ لِأَعْلَى الْجَنَّةِ: أَيْ هُوَ فِي أَعْلَى مَكَان فِي الْجَنَّةِ أَيْ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمَا لَا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّحَابَةَ أَرْفَعُ مِنْهُ دَرَجَةً قَطْعًا. وَأَمَّا الدُّعَاءُ بِنَحْوِ اجْعَلْنِي مَعَ النَّبِيِّينَ فَالْمُرَادُ فِي الِاجْتِمَاعِ وَالْمُؤَانَسَةِ لَا فِي الدَّرَجَةِ وَالْمَنْزِلَةِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى - {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} النساء: ٦٩- إلَخْ ط.
(قَوْلُهُ: كَيْفَ) اسْتِفْهَامٌ إنْكَارِيٌّ بِمَعْنَى النَّفْيِ: أَيْ كَيْفَ لَا يُعْطَى هَذَا الْمَكَانُ الْأَعْلَى ط.
(قَوْلُهُ: وَلَهَا) أَيْ لِرُؤْيَتِهِ رَبَّهُ تَعَالَى فِي الْمَنَامِ قِصَّةٌ مَشْهُورَةٌ ذَكَرَهَا الْحَافِظُ النَّجْمُ الْغَيْطِيُّ.
وَهِيَ أَنَّ الْإِمَامَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: رَأَيْت رَبَّ الْعِزَّةِ فِي الْمَنَامِ تِسْعًا وَتِسْعِينَ مَرَّةً فَقُلْت فِي نَفْسِي إنْ رَأَيْته تَمَامَ الْمِائَةِ لَأَسْأَلَنَّهُ: بِمَ يَنْجُو الْخَلَائِقُ مِنْ عَذَابِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ: فَرَأَيْته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَقُلْت: يَا رَبِّ عَزَّ جَارُك وَجَلَّ ثَنَاؤُك وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُك، بِمَ يَنْجُو عِبَادُك يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَذَابِك؟ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: مَنْ قَالَ بَعْدَ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ: سُبْحَانَ الْأَبَدِيِّ الْأَبَدِ، سُبْحَانَ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ، سُبْحَانَ الْفَرْدِ الصَّمَدِ، سُبْحَانَ رَافِعِ السَّمَاءِ بِلَا عَمَدْ، سُبْحَانَ مَنْ بَسَطَ الْأَرْضَ عَلَى مَاءٍ جَمَدْ، سُبْحَانَ مَنْ خَلَقَ الْخَلْقَ فَأَحْصَاهُمْ عَدَدْ، سُبْحَانَ مَنْ قَسَمَ الرِّزْقَ وَلَمْ يَنْسَ أَحَدْ، سُبْحَانَ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدْ، سُبْحَانَ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدْ، نَجَا مِنْ عَذَابِي. اهـ. ط.
(قَوْلُهُ: عَلَى رِجْلِهِ الْيُمْنَى إلَخْ) فِيهِ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ. اهـ. ح أَيْ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ فِي النَّهْيِ عَنْهُ.