وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ اُخْتُصَّ بِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ الْعِظَامِ، كَيْفَ لَا وَهُوَ كَالصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لَهُ أَجْرُهُ وَأَجْرُ
ــ
رد المحتار
الْكَشْفِ أَنَّ مَذْهَبَهُ آخِرُ الْمَذَاهِبِ انْقِطَاعًا فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الشَّعْرَانِيُّ فِي الْمِيزَانِ مَا نَصُّهُ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا مَنَّ عَلَيَّ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى عَيْنِ الشَّرِيعَةِ رَأَيْت الْمَذَاهِبَ كُلَّهَا مُتَّصِلَةً بِهَا، وَرَأَيْت مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ تَجْرِي جَدَاوِلُهَا كُلُّهَا، وَرَأَيْت جَمِيعَ الْمَذَاهِبِ الَّتِي انْدَرَسَتْ قَدْ اسْتَحَالَتْ حِجَارَةً، وَرَأَيْت أَطْوَلَ الْأَئِمَّةِ جَدْوَلًا الْإِمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ وَيَلِيهِ الْإِمَامُ مَالِكٌ، وَيَلِيهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ، وَيَلِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَقْصَرُهُمْ جَدْوَلًا الْإِمَامُ دَاوُد، وَقَدْ انْقَرَضَ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ، فَأَوَّلْت ذَلِكَ بِطُولِ زَمَنِ الْعَمَلِ بِمَذَاهِبِهِمْ وَقِصَرِهِ فَكَمَا كَانَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلَ الْمَذَاهِبِ الْمُدَوَّنَةِ فَكَذَلِكَ يَكُونُ آخِرَهَا انْقِرَاضًا، وَبِذَلِكَ قَالَ أَهْلُ الْكَشْفِ اهـ لَكِنْ لَا دَلِيلَ فِي ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ عِيسَى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَحْكُمُ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ الْعُلَمَاءُ مَوْجُودِينَ فِي زَمَنِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ، وَلِهَذَا قَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيّ فِي رِسَالَةٍ سَمَّاهَا الْإِعْلَامَ مَا حَاصِلُهُ: إنَّ مَا يُقَالُ إنَّهُ يَحْكُمُ بِمَذْهَبٍ مِنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَكَيْفَ يُظَنُّ بِنَبِيٍّ أَنَّهُ يُقَلِّدُ مُجْتَهِدًا مَعَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مِنْ آحَادِ هَذِهِ الْأَئِمَّةِ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ، وَإِنَّمَا يَحْكُمُ بِالِاجْتِهَادِ، أَوْ بِمَا كَانَ يَعْلَمُهُ قَبْلُ مِنْ شَرِيعَتِنَا بِالْوَحْيِ، أَوْ بِمَا تَعَلَّمَهُ مِنْهَا وَهُوَ فِي السَّمَاءِ، أَوْ أَنَّهُ يَنْظُرُ فِي الْقُرْآنِ فَيَفْهَمُ مِنْهُ كَمَا كَانَ يَفْهَمُ نَبِيُّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اهـ وَاقْتَصَرَ السُّبْكِيُّ عَلَى الْأَخِيرِ.
وَذَكَرَ مُنْلَا عَلِيِّ الْقَارِي أَنَّ الْحَافِظَ ابْنَ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيَّ سُئِلَ هَلْ يَنْزِلُ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَافِظًا لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أَوْ يَتَلَقَّاهُمَا عَنْ عُلَمَاءِ ذَلِكَ الزَّمَانِ؟ فَأَجَابَ: لَمْ يُنْقَلْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ صَرِيحٌ، وَاَلَّذِي يَلِيقُ بِمَقَامِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ يَتَلَقَّى ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَحْكُمُ فِي أُمَّتِهِ كَمَا تَلَقَّاهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ خَلِيفَةٌ عَنْهُ. اهـ. وَمَا يُقَالُ إنَّ الْإِمَامَ الْمَهْدِيَّ يُقَلِّدُ أَبَا حَنِيفَةَ، رَدَّهُ مُنْلَا عَلَى الْقَارِي فِي رِسَالَتِهِ الْمَشْرَبُ الْوَرْدِيُّ فِي مَذْهَبِ الْمَهْدِيِّ وَقَرَّرَ فِيهَا أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ مُطْلَقٌ، وَرَدَّ فِيهَا مَا وَضَعَهُ بَعْضُ الْكَذَّابِينَ مِنْ قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ. حَاصِلُهَا: أَنَّ الْخَضِرَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَعَلَّمَ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ، ثُمَّ عَلَّمَهَا لِلْإِمَامِ أَبِي الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيِّ، وَأَنَّ الْقُشَيْرِيِّ صَنَّفَ فِيهَا كُتُبًا وَضَعَهَا فِي صُنْدُوقٍ، وَأَمَرَ بَعْضَ مُرِيدِيهِ بِإِلْقَائِهِ فِي جَيْحُونَ، وَأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ نُزُولِهِ يُخْرِجُهُ مِنْ جَيْحُونَ وَيَحْكُمُ بِمَا فِيهِ، وَهَذَا كَلَامٌ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَلَا تَجُوزُ حِكَايَتُهُ إلَّا لِرَدِّهِ كَمَا أَوْضَحَهُ ط وَأَطَالَ فِي رَدِّهِ وَإِبْطَالِهِ فَرَاجِعْهُ.
(قَوْلُهُ: وَهَذَا) أَيْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَمِنْ كَثْرَةِ الْمَنَاقِبِ، وَمِنْ كَوْنِ الْحُكْمِ لِأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ ط.
(قَوْلُهُ: سَائِرِ) بِمَعْنَى بَاقِي أَوْ جَمِيعِ عَلَى خِلَافٍ بَسَطَهُ فِي دُرَّةِ الْغَوَّاصِ.
(قَوْلُهُ: كَيْفَ لَا) أَيْ كَيْفَ لَا يَخْتَصُّ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ.
(قَوْلُهُ: وَهُوَ كَالصِّدِّيقِ) وَجْهُ الشَّبَهِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ابْتَدَأَ أَمْرًا لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهِ فَأَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ابْتَدَأَ جَمْعَ الْقُرْآنِ بَعْدَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَشُورَةِ عُمَرَ وَأَبُو حَنِيفَةَ ابْتَدَأَ تَدْوِينَ الْفِقْهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، أَوْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ مِنْ الرِّجَالِ وَفَتَحَ بَابَ التَّصْدِيقِ كَذَا فِي حَوَاشِي الْأَشْبَاهِ. قَالَ شَيْخُنَا الْبَعْلِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَيْهَا: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ بِهِ أَتَمُّ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ الثَّانِي، هُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ بَعْدَمَا جُمِعَ لَا يُتَصَوَّرُ جَمْعُهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ، فَإِنَّهُ قَدْ جُمِعَ ثَانِيًا وَالْجَامِعُ لَهُ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، فَإِنَّ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمْ يَجْمَعْهُ فِي الْمَصَاحِفِ وَجَمَعَهُ عُثْمَانُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ اهـ تَأَمَّلْ.
(قَوْلُهُ: لَهُ) أَيْ لِلْإِمَامِ أَجْرُهُ: أَيْ أَجْرُ عَمَلِ نَفْسِهِ، وَهُوَ تَدْوِينُ الْفِقْهِ وَاسْتِخْرَاجُ فُرُوعِهِ ط.
(قَوْلُهُ: وَأَجْرُ) أَيْ وَمِثْلُ أَجْرِ مَنْ دَوَّنَ الْفِقْهَ: أَيْ جَمَعَهُ، وَأَصْلُهُ مِنْ التَّدْوِينِ: أَيْ جَعَلَهُ فِي الدِّيوَانِ، وَهُوَ بِكَسْرٍ وَفَتْحٍ اسْمٌ لِمَا يُكْتَبُ فِيهِ أَسْمَاءُ الْجَيْشِ لِلْعَطَاءِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ثُمَّ أُرِيدَ بِهِ مُطْلَقُ الْكُتُبِ مَجَازًا أَوْ مَنْقُولًا اصْطِلَاحِيًّا، وَقَوْلُهُ وَأَلَّفَهُ عَطْفٌ عَلَى دَوَّنَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. اهـ. بَعْلِيٌّ: أَيْ لِأَنَّ التَّأْلِيفَ جَمْعٌ عَلَى وَجْهِ الْأُلْفَةِ.