وَوَاجِبٌ اعْتِقَادًا وَسُنَّةٌ ثُبُوتًا) بِهَذَا وَفَّقُوا بَيْنَ الرِّوَايَاتِ، وَعَلَيْهِ (فَلَا يُكْفَرُ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ: أَيْ لَا يُنْسَبُ إلَى الْكُفْرِ (جَاحِدُهُ
ــ
رد المحتار
الِاخْتِلَافِ فِيهِ، وَلِذَا يُسَمَّى وَاجِبًا؛ وَنَظِيرُهُ مَسْحُ رُبُعِ الرَّأْسِ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ الْقَطْعِيَّ أَفَادَ أَصْلَ الْمَسْحِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ قَدْرَ الرُّبُعِ فَإِنَّهُ ظَنِّيٌّ، لَكِنَّهُ قَامَ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ مَا رَجَّحَ دَلِيلَهُ الظَّنِّيَّ حَتَّى صَارَ قَرِيبًا مِنْ الْقَطْعِيِّ فَسَمَّاهُ فَرْضًا أَيْ عَمَلِيًّا، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَلْزَمُ عَمَلُهُ، حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ وَمَسَحَ شَعْرَةً مَثَلًا يَفُوتُ الْجَوَازُ بِهِ وَلَيْسَ فَرْضًا عِلْمًا، حَتَّى لَوْ أَنْكَرَهُ لَا يَكْفُرُ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْمَسْحِ.
وَبِهِ عُلِمَ أَنَّ الْوَاجِبَ نَوْعَانِ أَيْضًا لِأَنَّهُ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى هَذَا الْفَرْضِ الْغَيْرِ الْقَطْعِيِّ يُطْلَقُ عَلَى مَا هُوَ دُونَهُ فِي الْعَمَلِ وَفَوْقَ السُّنَّةِ وَهُوَ مَا لَا يَفُوتُ الْجَوَازُ بِفَوْتِهِ كَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَقُنُوتِ الْوِتْرِ وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ، وَأَكْثَرُ الْوَاجِبَاتِ مِنْ كُلِّ مَا يُجْبَرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ. وَقَدْ يُطْلَقُ الْوَاجِبُ أَيْضًا عَلَى الْفَرْضِ الْقَطْعِيِّ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ التَّلْوِيحِ فِي بَحْثِ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ فَرَاجِعْهُ.
(قَوْلُهُ وَوَاجِبٌ اعْتِقَادًا) أَيْ يَجِبُ اعْتِقَادُهُ وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ إذْ لَوْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ لَمَا أَمْكَنَ إيجَابُ فِعْلِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ فِعْلُ مَا لَا يَعْتَقِدُهُ وَاجِبًا، وَلِذَا أَشْكَلَ قَوْلُهُمَا بِسُنِّيَّتِهِ وَوُجُوبِ قَضَائِهِ كَمَا يَأْتِي. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ فِي الْوَاجِبِ إنَّ حُكْمَهُ اللُّزُومُ عَمَلًا لَا عِلْمًا عَلَى الْيَقِينِ؛ فَقَوْلُهُمْ عَلَى الْيَقِينِ يُفِيدُ أَنَّ حُكْمَهُ اللُّزُومُ عَمَلًا وَعِلْمًا عَلَى الظَّنِّ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَعْلَمَ ظَنِّيَّتَهُ: أَيْ أَنَّهُ وَاجِبٌ وَإِلَّا لَغَا قَوْلُهُمْ عَلَى الْيَقِينِ، وَحِينَئِذٍ فَيُشْكِلُ قَوْلُ الزَّيْلَعِيِّ: إنَّ اعْتِقَادَ الْوُجُوبِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْحَنَفِيِّ، إلَّا أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ بِفَرْضٍ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَهُ لَا يَكْفُرُ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْفَرْضِ أَيْضًا كَمَا مَرَّ فَلْيُتَأَمَّلْ.
(قَوْلُهُ وَسُنَّةٌ ثُبُوتًا) أَيْ ثُبُوتُهُ عُلِمَ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ لَا الْقُرْآنِ وَهِيَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوِتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنِّي، قَالَهُ ثَلَاثًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَوْتِرُوا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحُوا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَتَمَامُهُ فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ.
(قَوْلُهُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ) أَيْ الثَّلَاثِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ فَرْضٌ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ وَأَنَّهُ سُنَّةٌ، وَالتَّوْفِيقُ أَوْلَى مِنْ التَّفْرِيقِ، فَرَجَعَ الْكُلُّ إلَى الْوُجُوبِ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ فِي الْكَنْزِ وَغَيْرِهِ. قَالَ فِي الْبَحْرِ: وَهُوَ آخِرُ أَقْوَالِ الْإِمَامِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مُحِيطٌ وَالْأَصَحُّ خَانِيَّةٌ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ مَبْسُوطٌ. اهـ. ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَسُنَّةٌ عَمَلًا وَاعْتِقَادًا وَدَلِيلًا، لَكِنَّهَا آكَدُ سَائِرِ السُّنَنِ الْمُؤَقَّتَةِ.
(قَوْلُهُ وَعَلَيْهِ إلَخْ) أَيْ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ التَّوْفِيقِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ حُمِلَتْ رِوَايَةُ الْفَرْضِ عَلَى ظَاهِرِهَا لَزِمَ إكْفَارُ جَاحِدِهِ؛ وَلَوْ حُمِلَتْ رِوَايَةُ الْوَاجِبِ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَهُوَ كَوْنُ الْمُرَادِ بِالْوَاجِبِ مَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ، وَهُوَ مَا لَا يَفُوتُ الْجَوَازُ بِفَوْتِهِ وَلَا يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْفَرْضِ لَزِمَ أَنْ لَا يَفْسُدَ الْفَجْرُ بِتَذَكُّرِهِ وَلَا عَكْسُهُ. وَلَوْ حُمِلَتْ رِوَايَةُ السُّنَّةِ عَلَى ظَاهِرِهَا لَزِمَ أَنْ لَا يَقْضِيَ وَأَنْ يَصِحَّ قَاعِدًا وَرَاكِبًا؛ فَفِي تَفْرِيعِ الْمُصَنِّفِ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُرَتَّبٌ فَافْهَمْ.
(قَوْلُهُ فَلَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ) أَيْ جَاحِدُ أَصْلَ الْوِتْرِ اتِّفَاقًا لِأَنَّ عَدَمَ الْإِكْفَارِ لَازِمُ السُّنِّيَّةِ وَالْوُجُوبِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ ح.
قُلْت: وَالْمُرَادُ الْجُحُودُ مَعَ رُسُوخِ الْأَدَبِ، كَأَنْ يَكُونَ لِشُبْهَةِ دَلِيلٍ أَوْ نَوْعِ تَأْوِيلٍ، فَلَا يُنَافِيهِ مَا يَأْتِي مِنْ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ السُّنَنَ فَإِنْ رَآهَا حَقًّا أَثِمَ وَإِلَّا كَفَرَ لِأَنَّهُمْ عَلَّلُوهُ بِأَنَّهُ تَرَكَ اسْتِخْفَافًا كَمَا عَزَاهُ فِي الْبَحْرِ إلَى التَّجْنِيسِ وَالنَّوَازِلِ وَالْمُحِيطِ، وَلِقَوْلِهِ فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: وَلَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ إلَّا إنْ اسْتَخَفَّ وَلَمْ يَرَهُ حَقًّا عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي مَرَّ فِي السُّنَنِ اهـ وَأَرَادَ بِمَا مَرَّ، هُوَ أَنْ: يَقُولَ هَذَا فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا لَا أَفْعَلُهُ.
مَطْلَبٌ فِي مُنْكِرِ الْوِتْرِ وَالسُّنَنِ أَوْ الْإِجْمَاعِ
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ: وَيَكْفُرُ بِإِنْكَارِ أَصْلِ الْوِتْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ اهـ وَمِثْلُهُ فِي الْقُنْيَةِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا جُحُودُ وُجُوبِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ تَعْلِيلُ الزَّيْلَعِيِّ بِثُبُوتِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَإِنَّ الثَّابِتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وُجُوبُهُ لَا أَصْلُ مَشْرُوعِيَّتِهِ،