فَلَمْ يَعُقْ عَنْ عَمَلٍ قَدْ عُلِمَا: ما هو العمل الذي عُلِم؟ الجرّ: ((عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ)) المؤمنون:٤٠، (عمّا قليل) (عن ما) أصبحت قليل، هذا الأصل، دخلت عليها (ما) وهي كافة، ولكن لم تكفها عن العمل، (عما قليل)، قليل هذا مجرور بـ (عن)، و (ما) هذه وهي كافة لم تكفّها، لماذا لم تكفها والأصل فيها الكف؟ نقول: للسماع جاءت في أفصح الكلام: ((مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ)) نوح:٢٥، (خطيئات) مجرورٌ بـ (من)، دخلت (ما) كفتها؟ لا، لماذا لم تكفّها؟ هكذا السماع جاءت في أفصح الكلام، لا نحتاج إلى تعليل: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ)) آل عمران:١٥٩، (فبرحمة) دخلت (ما)، لكن أفادت من جهة المعنى، يعني: الحرف الزائد إذا دخلَ على الجملة قيل في قوّة تكراره مرّتين وقيل ثلاث أقل الجمع، يعني: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ)) آل عمران:١٥٩، هذا في قوّة جملتين، الحرف الزائد يقوي .. يُكرِّر الجملة في مقام مرتين أو ثلاث: ((عَمَّا قَلِيلٍ)) المؤمنون:٤٠، ((مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ)) نوح:٢٥، كأنه قال: (من خطيئاتهم؛ من خطيئاتهم؛ من خطيئاتهم أغرقوا)، (بما رحمة من الله، بما رحمة من الله، بما رحمة من الله)، حُذفت الجملة.
((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) الشورى:١١، (ليس مثله شيء، ليس مثله شيء)، ثم زِيدت الكاف.
إذن: من حيث العمل لم تكفها، ولكن من حيث المعنى زادتها قوة.
وَبَعْدَ مِنْ وَعَنْ وَبَاءٍ زِيدَ مَا فَلَمْ يَعُقْ: يعني: لم تُمنَع.
عَنْ عَمَلٍ قَدْ عُلِمَا: الألف للإطلاق، وهو الجرّ.
لعل من إزالتها اختصاص، بقيت كما هي مختصة، هذا مثل إن وأخواتها، قلنا: تُزاد (ما) وقد تُزِيل اختصاصها وقد لا تُزيل، ولذلك قيل:
لَيْتمَا هَذَا الْحمَامَ لَنَا .. بقيت على اختصاصها، وأما ما عداها فلا.
وَزِيْدَ بَعْدَ رُبَّ وَالْكَافِ
يعني: زِيد ما بعد رُب والكاف.
فَكَفْ: يعني: كفّتها عن العمل.
أما الثلاث الأحرف السابقة: (من وعن وباء) مطلقاً في كل تركيب تعمل، وبعضها الذي هو الكاف ورُبَّ لا على حالتين، تعمل ولا تعمل تكفها .. وَقَدْ يَلِيْهِمَا وَجَرٌّ لَمْ يُكَفْ
وزِيدَ بعد رُبَّ: هذا إشارة إلى الرابع والخامس، زِيْدَ يعني: ما الكافة، بَعْدَ: حرفي رُبَّ وَالْكَافِ، فَكَفْ: يعني: كفّتهما عن الجر غالباً، هذا هو الغالب فيها، وحينئذٍ يدخلان على الجملة، فإن قِيل: ما الفرق بين هذين الحرفين وما سبق؟ قيل: قد يُفرَّق بين رب والكاف وبين الثلاثة قبلها، بأن اختصاصها بالأسماء أقوى؛ لجرّها كلّ اسم بخلاف رُبّ والكاف، فإنهما إنما يجرّان بعض الأسماء، فلضعفهما بما ذُكَر كُفّا عن العمل بخلافهما، وأنكرَ أبو حيان كفَّ الكاف بـ (ما)، وأوّلَ ما يُوهِم ذلك بجعل (ما) مصدرية مُنسبِكة مع الجملة بعدها بمصدر، بناء على جواز وصلها بالاسمية.
إذن: فَكَفْ، يعني: كفّ (ما) عمل رب والكاف، حينئذٍ لا تعمل الجرّ، بل تُسوِّغهما في الدخول على الجملة الاسمية والجملة الفعلية، فلِزوال اختصاصهما بالاسم المفرد حينئذٍ صحَّ دخولهما على الجملتين.
وَقَدْ تَلِيهِمَا: قد هذه للتقليل. وَقَدْ تَلِيهِمَا: يعني: تلي (ما) رُبّ والكاف، الفاعل هنا ضمير مُستتر يعود على (ما).