الزَّمَخْشرِي زاد على (لَنْ) من حيث المعنى أنَّها تُفِيد التَّأبِيد، يعني: الحكم الذي بعدها –النَّفْي- مُؤبَّد مُطلقاً: لَنْ أقوم، يعني: لَنْ أقوم إلى أن تموت، وكذلك تُفِيد التَّأكِيد، وفي التَّأكيد وَافَقَه كثير، وأمَّا في التَّأبيد فالأكثر على رَدِّه.
ولا تُفِيد تأبيد النَّفْي ولا تأكيده خِلافاً للزَّمَخْشرِي، وإن كان قد وافقه على التَّأكِيد كثيرون، لأنَّ التَّأكيد تقوية، ولا بأس بالقول به، لكن كونها تَدلُّ على التَّأبِيد لا. ورُدَّ ادِّعَاء التَّأبِيد بأنَّه لا دليل عليه .. هذا أولاً: لا دليل عليه في لسان العرب، ولأنَّها لو كانت للتَّأبِيد للزم التناقض بذكر (الْيَوْمَ) في قوله: ((فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً)) مريم:٢٦ .. (فَلَنْ أُكَلِّمَ) تأبيد، (الْيَوْمَ) هذه تَدلُّ على التأبيد، وهذه تَدلُّ على التَّقييد، حصل تناقض أو لا؟
رُدَّ عليه بِهذا: بأنَّه لو كانت للتَّأبِيد للزم التناقض بذكر (الْيَوْمَ) في قوله: ((فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً)) مريم:٢٦.
والتَّكْرَار كذلك بِذِكر (أَبَداً) .. ((وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً)) البقرة:٩٥ لو كانت للتَّأبِيد في النَّفْي، ما الفائدة من قوله (أَبَداً)، وهذا يُمكن الجواب عليه: أنَّه من باب التَّأكيد .. ذُكِر (أَبَداً) تأكيدٌ لِمَا دَلَّت عليه (لَنْ)، حِينئذٍ يكون توكيداً من جهة المعنى، ((وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً)) البقرة:٩٥.
حِينئذٍ (أَبَداً) و (لَنْ) رُدَّ على الزَّمَخْشرِي: بأنَّها لو كانت للتَّأبِيد لصار فيه تكرار، لكن التَّكْرَار إنَّما يكون باللفظ نفسه .. هذا المعيب، وأمَّا التَّكرار بأن يدل على المعنى، وكان بلفظٍ آخر لا إشكال فيه .. لا بأس به، يعني: التكرار .. الاعتراض على الزَّمَخْشرِي بِمثل هذا ليس بَجيِّد، لماذا؟ لأنَّ التكرار إنَّمَا يكون معيباً وحَشواً ومَحلَّ أخذٍ إذا كان بنفس اللفظ، يعني لو قال: لن لن لن يتمنونه، قد يُقال أنَّ فيه تكرار، أمَّا (لَنْ) و (أَبَداً) في اللفظ غير تكرار، وإنَّما هو من جهة المعنى.
بل قولك: لن أقوم، حِينئذٍ نقول: مُحتملٌ، يعني إذا قيل: بأنَّ كلام الزَّمَخْشرِي بأنَّ (لَنْ) تفيد التأبيد غير مقبول، هل يلزم منه أنَّ (لَنْ) لا تفيد تأبيداً أبداً؟ لا .. ليس هذا المراد، المراد هل هي موضوعة للتأبيد أم لا؟ الزَّمَخْشرِي يقول: نعم، موضوعة للتَّأبِيد، ومن رَدَّ عليه قال: لا هي تُفِيد .. مُحتمِلَة للتَّأبِيد، قد يكون من مدلولات (لَنْ) التَّأبِيد، يعني: من أراد أن يُؤبِّد: لن أذهب وأنت تُريد التَّأبِيد .. إذا قلت: لن أذهبَ وأردتَ التأبيد، نقول: هي للتَّأبِيد، لأنَّها مُحتمِلَة للتَّأبِيد وللنَّفْي في بعض أزمان المستقبل.
وأنت وشأنك إذا قلت: لن أدخل بيت فلان، وأَرَدْتَ به التَّأبِيد، حِينئذٍ نقول: (لَنْ) هنا في هذا المقام للتَّأبِيد، كيف نحن نرد على الزَّمَخْشرِي، ونحن نقول: أردنا بِها التَّأبِيد هنا؟ نقول: نعم، ردُّنا على الزَّمَخشرِي بأنَّها موضوعة للتَّأبِيد، يعني: لا تخرج عنه .. في كل تركيب (لَنْ) تُفِيد التَّأبِيد، ونحن نقول: لا، (لَنْ) مُحتمِلَة للتَّأبِيد ومُحتمِلَة لغيره، فكونها موضوعة للتَّأبِيد دون غيره هذا مَحلُّ نظر.
بل قولك: لن أقوم، مُحتمِلٌ بأن تريد بذلك أنَّك لا تقوم أبداً، وأنَّكَ لا تقوم في بعض أزمنة المستقبل، مثل: لا أقوم، لا أقوم أبداً؟ لا أقوم في بعض أزمان المستقبل، فـ: (لاَ) و (لَنْ) من حيث النَّفْي في المستقبل بِمعنَىً واحد، يعني: مُحتمِلَة للتَّأبِيد، ومُحتمِلَة للنَّفْي في بعض أزمنة المستقبل.
فلا يُظنَّنَّ ظَان أنَّ رَدَّ الزَّمَخْشرِي قوله: بأنَّها لا تُفِيد تَأبِيداً، مُطلقاً ولا احتمالاً .. لا، لم يقولوا بِهذا، وإنَّما قالوا: نعم، قد تَدلُّ على التَّأبِيد، لكن مع احتمال غيره، وأمَّا كونها موضوعة للتَّأبِيد لا.
وأمَّا: ((لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً)) الحج:٧٣ قال: هذا للتَّأبِيد .. هذا معلوم أنَّه للتَّأبِيد، ليس من اللفظ، وإنَّما من شيءٍ خارج، صفة الخلق ليست لمخلوق، ((لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ)) الحج:٧٣ هنا مُؤبَّد .. هذا قطعي .. لا إشكال فيه، لكن من خارجٍ لا من جهة اللفظ.