وكانت هزيمة المشركون، فاتبعهم المسلمون حتى انتهوا إلى نهر بنى سليم، ثم كروا على المسلمين وركدت الحرب بينهم مليا، فلا يسمع إلا هرير الرجال، وقد كان أنس بن هلال النمرى قدم ممدا للمثنى فى أناس من النمر نصارى، وابن مردى الفهرى الثعلبى فى ناس من قومه كذلك، وقالوا حين رأو نزول العجم بالعرب: نقاتل مع قومنا، فلما طال القتال يومئذ واشتد عمد المثنى إلى أنس بن هلال، فقال: يا أنس، إنك امرؤ عربى، وإن لم تكن على ديننا، فإذا رأيتنى قد حملت على مهران فاحمل معى، وقال لابن مردى الفهرى مثل ذلك، فأجاباه، فحمل المثنى على مهران فأزاله حتى دخل فى ميمنته، ثم خالطوهم، واجتمع القلبان، وارتفع الغبار والمجنبات تقتتل، لا يستطيعون أن يفزعوا لنصر أميرهم، لا المسلمون ولا المشركون، وقد كان المثنى قال لهم: إذا رأيتمونا أصبنا فلا تدعوا ما أنتم فيه، فإن الجيش ينكشف ثم ينصرف، فالزموا مصافكم وأغنوا عنا من يليكم، وأوجع قلب المسلمين قلب المشركون، ووقف المثنى حتى أسفر الغبار وقد فنى قلب المشركين، والمجنبات قد هز بعضها بعضا، فلما رآه المسلمون وقد أزال القلب وأفنى أهله قويت مجنبات المسلمين على المشركين وجعلوا يردون الأعاجم على أدبارهم، وجعل المسلمون والمثنى فى القلب يدعون لهم بالنصر، ويرسل إليهم من يذمرهم ويقول لهم: إن المثنى يقول لكم عادتكم فى أمثالهم، انصروا الله ينصركم، حتى هزم القوم.
وكانت راية الأزد مع عبد الله بن سليم، فجعل بتقدم بها، فقال له رجل: لو تأخرت قليلا، فقال:
أقسمت بالرحمن أن لا أبرحا
... أو يصنع الله لنا فيفتحا
وقاتل حتى قتل، وتقدم أبو أمية عبد الله بن كعب الأزدى وهو يقول: اللهم إليك أسعى لترضى، وإياك أرجو فاغفر ذنبى، ثم تقدم فقاتل حتى قتل، رحمه الله، فحمل أبو رملة بن عبد الله بن سليم، وكانت عنده الرباب ابنة عبد الله بن كعب، فقتل قاتل عبد الله بن كعب واحتز رأسه، فأتى به ابنه، وهو غلام مراهق، فقال: دونك رأس قاتل أبيك، فعض الفتى بأنفه، ومر به رجل من بكر بن وائل يقال له عجل، فقال: يا فتى ما أشجعك على الأموات فحمى الفتى واعترض العدو، فاتبعه عمه جندب وهو يقول: يا عجل، قتلت ابن أخى، فلحقه وقد قتل رجلا، فرده، وقتل حصين بن القعقاع بن معبد ابن زرارة، فأخذ الراية مولى لهم أو مولى للأزد يقال له خصفة، فقاتل حتى قتل، ودارت بينهم رحى الحرب، وأخذت جرير الرماح فنادى: وا قوماه، أنا جرير، فقاتلت عنه جماعة من قيس ليس معهم غيرهم حتى خلص، وشدت جماعة على مسعود بن