فَإِنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يُفِيدُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَالتَّرْكِيبِ، وَذَلِكَ تَقْيِيدٌ وَتَخْصِيصٌ؛ كَقَوْلِك: أَكْرِمْ الْإِنْسَانَ، أَو الْإِنْسَانُ خَيْرٌ مِن الْفَرَسِ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {أَقِمِ الصَّلَاةَ} الإسراء: ٧٨ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَمِن هُنَا غَلِطَ كَثِيرٌ مِن النَّاسِ فِي الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ حَيْثُ ظَنُّوا وُجُودَهَا فِي الْخَارجِ مُجَرَّدَةً عَن الْقُيُودِ، وَفِي اللَّفْظِ الْمُتَوَاطِئِ حَيْثُ ظَنُّوا تَجَرُّدَهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ عَن الْقُيُودِ.
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ لَا يُوجَدُ الْمَعْنَى الْكليُّ الْمُطْلَقُ فِي الْخَارجِ إلَّا مُعَيَّنًا مُقَيَّدًا، وَلَا يُوجَدُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ إلَّا مُقَيَّدًا مُخَصَّصًا، وَإِذَا قُدِّرَ الْمَعْنَى مُجَرَّدًا كَانَ مَحَلُّهُ الذِّهْنَ، وَحِينَئِذٍ يُقَدَّرُ لَهُ لَفْظٌ مُجَرَّدٌ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الِاسْتِعْمَالِ مُجَرَّدًا. ١٤/ ٢١٥ - ٢١٦
١٢٧٥ - قَوْله تَعَالَى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} طه: ٦٣؛ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا أَشْكَلَ عَلَى كَثِيرٍ مِن النَّاسِ، فَإِنَّ الَّذِي فِي مَصاحِفِ الْمُسْلِمِينَ {إِنْ هَذَانِ} بِالْأَلْفِ، وَبِهَذَا قَرَأَ جَمَاهِيرُ الْقُرَّاءِ، وَأَكْثَرُهُم يَقْرَأُ (إنَّ) مُشَدَّدَة، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ عَن عَاصِمٍ (إنْ) مُخَفَّفَةً، لَكِن ابْنُ كَثيرٍ يُشَدِّدُ نُونَ (هَذَانِ) دُونَ حَفْصٍ.
وَالْإِشْكَالُ مِن جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ عَن عَاصِمٍ، وَجُمْهُورُ الْقُرَّاءِ عَلَيْهَا، وَهِيَ أَصَحُّ الْقِرَاءَاتِ لَفْظًا وَمَعْنَى.
فَإِنَّ مَنْشَأ الْإِشْكَالِ: أَنَّ الِاسْمَ الْمُثَنَّى يُعْرَبُ فِي حَالِ النَّصْبِ وَالْخَفْضِ بِالْيَاءِ، وَفِي حَالِ الرَّفْعِ بِالْأَلْفِ، وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ مِن لُغَةِ الْعَرَب لُغَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهَا فِي الْأَسْمَاءِ الْمَبْنِيَّةِ.
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ الْمُوَافِقَةُ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ فَاحْتَجَّ لَهَا كَثِيرٌ مِن النُّحَاةِ بِأَنَّ هَذِهِ لُغَةَ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، وَقَد حَكَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ .. يَجْعَلُونَ أَلِفَ الِاثْنَيْنِ فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْخَفْضِ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ.