فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظِ: أَسْلَمَ وَجْهَهُ، وَوَجَّهَ وَجْهَهُ، وَأَقَامَ وَجْهَهُ.
قَالَ قُدَمَاءُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ} البقرة: ١١٢؛ أَيْ: أَخْلَصَ فِي دِينِهِ وَعَمَلِهِ للهِ (١).
وَقَالَ بَعْضُهُم: فَوَّضَ أَمْرَهُ إلَى اللّهِ.
وَقَد قِيلَ: خَضَعَ وَتَوَاضَعَ للّهِ.
وَهَذَا الثالِثُ: يَلِيقُ بِالْإِسْلَام اللَّازِمِ؛ فَإِنَّ وَجْهَهُ هُوَ قَصْدُهُ وَتَوَجُّهُهُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ عَمَلِهِ، وَهُوَ عَمَلُ قَلْبِهِ الَّذِي هُوَ مِلْكُ بَدَنِهِ، فَإِذَا تَوَجَّهَ قَلْبُهُ تَبِعَهُ أَيْضًا تَوَجُّهُ وَجْهِه .. فَيَكُونُ قَد أسْلَمَ عَمَلَهُ الْبَاطِنَ وَالظَّاهِرَ، وَأَعْضَاءَهُ الْبَاطِنَةَ وَالظَّاهِرَةَ للّهِ؛ أَيْ: سَلَّمَهُ لَهُ وَأَخْلَصَهُ للّهِ؛ كَمَا فِي الْإِسْلَامِ اللَّازِمِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٣١)} البقرة: ١٣١، وَقَوْلُهُ عَن إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} البقرة: ١٢٨؛ أَيْ: مُنْقَادَةً مُخْلِصَةً.
وَكَذَلِكَ تَوْجِيهُ الْوَجْهِ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ: تَوْجِيه قَصْدِهِ وَإِرَادَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَذَلِكَ يَسْتَتْبعُ الْوَجْهَ وَغَيْرَهُ، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ تَوْجِيهِ الْعُضْوِ مِن غَيْرِ عَمَلِ الْقَلْبِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا.
وَعَلَى هَذَا: فَإِقَامَةُ الْوَجْهِ: اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ (٢) مَكِّيَّةٌ، وَالْكَعْبَةُ إنَّمَا فُرِضَتْ فِي الْمَدِينَةِ، إلَّا أَنْ يُرَادَ بِإِقَامَةِ الْوَجْهِ الِاستِقْبَالُ الْمَأمُورُ بِهِ.
وَإِنَّمَا وَقَعَ النِّزَاعُ هُنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}
(١) قال ابن كثير رَحِمهُ الله: قَالَ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ}؛ أَيْ: مَن أخْلَصَ الْعَمَلَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَقَالَ أَبُو الْعَاليَةِ وَالرَّبِيعُ: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} يَقُولُ: مَن أخْلَصَ لِلَّهِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ} أخْلَصَ، {وَجْهَهُ} قَالَ: دِينَهُ. اهـ. تفسير ابن كثير (١/ ٣٨٥).
(٢) وهي قَوْله تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا}.