مَعْنَاهُ جَعَلَهُ نُزُلًا، كَمَا يُقَالُ: أَنْزَلَ الْأَمْرَ عَلَى فُلَانٍ نُزُلًا حَسَنًا؛ أَيْ: جَعَلَهُ نُزُلًا، قَالَ: وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} الزمر: ٦ وَهَذَا ضَعِيف؛ فَإِنَّ النُّزُلَ إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى مَا يُؤْكَلُ لَا عَلَى مَا يُقَاتَلُ بِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣)} الواقعة: ٩٣ وَالضّيَافَةُ سُميَتْ نُزُلا؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَ الضَّيْفَ يَكونُ رَاكِبًا فَيَنْزِلُ فِي مَكان يُؤتَى إلَيْهِ بِضِيَافَتِهِ فِيهِ، فَسُمِّيَتْ نُزُلًا لِأَجْلِ نُزُولهِ.
وَجَعَلَ بَعْضُهم نزُولَ الْحَدِيدِ بِمَعْنَى الْخَلْقِ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِن الْمَعَادِنِ وَعَلَّمَهُم صَنْعَتَهُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} الزمر: ٦، وَهَذَا مِمَّا أَشْكَلَ أَيْضًا، فَمِنْهُم مَن قَالَ: جَعَلَ، وَمِنْهُم مَن قَالَ: خَلَقَ.
وَلَا حَاجَةَ إلَى إخْرَاجِ اللَّفْظِ عَن مَعْنَاه الْمَعْرُوفِ لُغَةً، فَإِنَّ الْأَنْعَامَ تَنْزِلُ مِن بُطُونِ أُمَّهَاتِهَا وَمِن أَصْلَابِ آبَائِهَا تَأْتِي بُطُونَ أُمَّهَاتِهَا.
وَمِمَّا يُبَيّنُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَعْمِل النُّزُولَ فِيمَا خَلَقَ مِن السُّفْليَّاتِ، فَلَمْ يَقُلْ: أَنَزَلَ النَّبَاتَ، وَلَا أَنْزَلَ الْمَرْعَى، وإنَّمَا اسْتَعْمَلَ فِيمَا يُخْلَقُ فِي مَحَل عَالٍ، وَأَنْزَلَهُ اللهُ مِن ذَلِكَ الْمَحَلِّ كَالْحَدِيدِ وَالْأَنْعَامِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} الأعراف: ٢٦، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الرِّيشَ هُوَ الْأَثَاثُ وَالْمَتَاعُ.
وَالْقُرْآنُ مَقْصُودُه جِنْسُ اللِّبَاسِ الَّذِي يُلْبَسُ عَلَى الْبَدَنِ وَفِي الْبُيُوتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} النحل: ٨٠ الْآيَةَ، فَامْتَنَّ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِم بِمَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِن الْأَنْعَامِ فِي اللِّبَاسِ وَالْأَثَاثِ، وَهَذَا -وَاللّهُ أَعْلَمُ- مَعْنَى إنْزَالِهِ؛ فَإنَّهُ يُنَزلُهُ مِن ظُهُورِ الْأَنْعَامِ وَهُوَ كُسْوَةُ الْأَنْعَامِ مِن الْأَصْوَافِ وَالْأَوْبَارِ وَالْأَشْعَارِ وينْتَفِعُ بِهِ بَنُو آدمَ مِن اللّبَاسِ وَالرِّيَاشِ، فَقَد أَنْزَلَهَا عَلَيْهِم وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْأَرْضِ كِسْوَتُهُم مِن جُلُودِ الدَّوَابِّ، فَهِيَ لِدَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَأَعْظَمُ مِمَّا يُصْنَعُ مِن الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ.