وَمَسْأَلَةُ الْفَأْرَةِ فِي السَّمْنِ مِن هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِتِلْكَ الْفَأْرَةِ وَذَلِكَ السَّمْنِ، وَلَا بِفَأْرِ الْمَدِينَةِ وَسَمْنِهَا، وَلَكِنَّ السَّائِلَ سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَن فَأَرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَأَجَابَهُ، لَا أنَّ الْجَوَابَ يَخْتَصُّ بِهِ وَلَا بِسُؤَالِهِ كَمَا أَجَابَ غَيْرُهُ.
فَالصَّوَابُ فِي هَذَا مَا عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْمَشْهُورُونَ: أَنَّ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ مُعَلَّقٌ بِالْخَبِيثِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ إذَا وَقَعَ فِي السَّمْنِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْمَائِعَاتِ، لِأَنَّ اللهَ أَبَاحَ لَنَا الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ، فَإِذَا عَلَّقْنَا الْحُكْمَ بِهَذَا الْمَعْنَى كُنَّا قَد اتَّبَعْنَا كِتَابَ اللهِ، فَإِذَا وَقَعَ الْخَبِيثُ فِي الطَّيِّبِ أُلْقي الْخَبِيثُ وَمَا حَوْلَهُ وَأُكِلَ الطَّيِّبُ، كَمَا أَمَرَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-.
وَأَحَقُّ النَّاسِ بِالْحَقِّ مَن عَلَّقَ الْأَحْكَامَ بِالْمَعَانِي الَّتِي عَلَّقَهَا بِهَا الشَّارعُ.
وَهَذَا مَوْضِعٌ تَفَاوَتَ فِيهِ النَّاسُ وَتَنَازَعُوا: هَل يُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِن خِطَابِ الشَّارعِ؟ أَو مِنَ الْمَعَانِي الْقِيَاسِيَّةِ؟
فَقَوْمٌ زَعَمُوا أَنَّ أَكْثَرَ أَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لَا يَتَنَاوَلُهَا خِطَابُ الشَّارعِ بَل تَحْتَاجُ إلَى الْقِيَاسِ.
وَقَوْمٌ زَعَمُوا أَنَّ جَمِيعَ أَحْكَامِهَا ثَابِتَةٌ بِالنَّصّ، وَأَسْرَفُوا فِي تَعَلُّقِهِمْ بِالظَّاهِرِ حَتَّى أَنْكَرُوا فَحْوَى الْخِطَابِ وَتَنْبِيهَهُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} الإسراء: ٢٣ وَقَالُوا: إنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى النَّهْيِ عَنِ التَّأْفِيفِ، لَا يُفْهَمُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنِ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ.
وَأَنْكَرُوا "تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ" وَادَّعَوْا فِي الْأَلْفَاظِ مِنَ الظُّهُورِ مَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ.
وَنَحْنُ قَد بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْأَدِلَّةَ الصَّحِيحَةَ لَا تَتَنَاقَضُ، فَلَا تَتَنَاقَضُ الْأَدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ الْعَقْلِيَّةُ وَالشَّرْعِيَّةُ، وَلَا تتنَاقَضُ دَلَالَةُ الْقِيَاسِ إذَا كَانَت صَحِيحَةً، وَدَلَالَةُ الْخِطَابِ إذَا كَانَت صَحِيحَةً.