الْحَمَّامَاتِ الَّتِي فِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِأَهْلِ تِلْكَ الْأمْصَارِ مِن الْحَمَّامِ، وَلَا بُدَّ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى مَحْظُورٍ، فَهُنَا أَيْضًا لَا تُطْلَق كَرَاهَةُ بِنَائِهَا وَبَيْعِهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "الْحَلَالُ بَيِّن وَالْحَرَامُ بَيِّن وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِن النَّاسِ، فَمَن اتَقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ، وَمَن وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ؛ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُخَالِطَهُ" (١): إنَّمَا يَقْتَضِي اتِّقَاءَ الشُّبُهَاتِ الَّتِي يَشْتَبِهُ فِيهَا الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَبَهَ الْوَاجِبُ أَو الْمُسْتَحَبُّ بِالْمَحْظُورِ.
وَلِهَذَا سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَد عَن رَجُلٍ مَاتَ أَبُوة وَعَلَيْهِ دَيْن، وَلَهُ دُيُونٌ فِيهَا شُبْهَةٌ أَيَقْضِيهَا وَلَدُهُ؟ فَقَالَ: أَيَدَعُ ذِمَّةَ أَبِيهِ مَرْهُونَةً؟
وَهَذَا جَوَابٌ سَدِيدٌ؛ فَإِنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ سَبَبٌ لِلْعِقَابِ، فَلَا يُتْرَكُ لِمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ عِقَابٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ.
وَمِن الْمَعْلُومِ أَنَّ مِن الْأَغْسَالِ مَا هُوَ وَاجِبٌ؛ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَمِنْهَا مَا هُوَ مُؤَكَّدٌ .. وَمِنْهَا مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ، وَهَذِهِ الْأَغْسَالُ لَا تُمْكِنُ فِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ إلَّا فِي حَمَّامٍ.
وَإِن اغْتَسَلَ فِي غَيْرِ حَمَّامٍ خِيفَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ أَو الْمَرَضُ.
فَلَا يَجُوزُ الِاغْتِسَالُ فِي غَيْرِ حَمَّامٍ حِينَئِذٍ.
وَلَا يَجُوزُ الِانْتِقَالُ إلَى التَّيَمُّمِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاغْتِسَالِ بِالْمَاءِ فِي الْحَمَّامِ.
الْقِسْم الرَّابعُ: أنْ تَشْتَمِلَ عَلَى الْمَحْظُورِ مَعَ إمْكَانِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا: كَمَا فِي حَمَّامَاتِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالْيَمَنِ فِي الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ، فَهَذَا مَحَلُّ نَصِّ أَحْمَد وَتَجَنُّبُ ابْنِ عُمَرَ.
(١) رواه البخاري (٥٢)، ومسلم (١٥٩٩).