وقَوْله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} المائدة: ٦ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ؛ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} البقرة: ٦٧ .. وَهَذِهِ تُسَمَّى مُطْلَقَةً، وَهِيَ تُفِيدُ الْعُمُومَ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ أيَّ صَعِيدٍ طَيِّبٍ اتَّفَقَ.
وَالطَّيِّبُ هُوَ الطَّاهِرُ وَالتُّرَابُ الَّذِي يَنْبَعِثُ مُرَادٌ مِن النَّصِّ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِيمَا سِوَاهُ نِزَاعٌ سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} قَد اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ عَلَى قِرَاءَةِ {أَيْدِيكُمْ} بِالْإِسْكَانِ؛ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْوُضُوءِ: {وَأَرْجُلَكُمَ} فَإِنَّ بَعْضَ السَّبْعَةِ قَرَءُوا: {وَأَرْجُلَكُمْ} بِالنَّصْبِ، قَالُوا: إنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْمَغْسُولِ، تَقْدِيرُهُ: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ، كَذَلِكَ قَالَ عَلِيٌّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرُهُ مِن السَّلَفِ.
وَالْبَاءُ هُنَا لِلْإِلْصَاقِ لَيْسَتْ لِلتَّوْكِيدِ، وَلِهَذَا لَمْ يَقْرَأ الْقُرَّاءُ هُنَا {وَأَيْدِيَكُمْ} كَمَا قَرَءُوا هُنَاكَ {وَأَرْجُلَكُمْ}؛ لِأنَّهُ لَو قَالَ: (فَامْسُحُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) أو "امْسَحُوا بِهَا) لَكَانَ يُكْتَفَى بِمُجَرَّدِ الْمَسْحِ مِن غَيْرِ إيصَالٍ لِلطَّهُورِ إلَى الرَّأْسِ (١)، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، فَلَمَّا كَانَت الْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِن إلْصَاقِ الْمَمْسُوحِ بِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الطَّهُورِ.
وَلِهَذَا كَانَت هَذِهِ الْبَاءُ لَا تَدُلُّ عَلَى التَّبْعِيضِ عِنْدَ أَحَدٍ مِن السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ.
وقَوْله تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ التُّرَابَ طَهُورٌ، كَمَا صَرَّحَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا" (٢).
(١) أي: يمسح بيديه فقط، بلا ماءٍ للرأس في الوضوء، وبلا تراب للوجه واليدين في التيمم.
(٢) البخاري (٣٢٨).