عَلَى أَنَّهُ كُلَّمَا قَرُبَ الْمُصَلُّونَ إلَيْهَا كَانَ صَفُّهُم أقْصَرَ مِنَ الْبَعِيدِينَ عَنْهَا.
وَهَذَا شَأنُ كُلِّ مَا يُسْتَقْبَلُ؛ فَالصَّفُّ الْقَرِيبُ مِنْهَا لَا يَزِيدُ طُولُهُ عَلَى قَدْرِ الْكَعْبَةِ.
وَلَو زَادَ: لَكَانَ الزَّائِدُ مُصَلِّيًا إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ.
وَالصَّفُّ الَّذِي خَلْفَهُ يَكُونُ أَطْوَلَ مِنْهُ وَهَلُمَّ جَرَّا.
فَإِذَا كَانَتِ الصُّفُوفُ تَحْتَ سَقَائِفِ الْمَسْجِدِ كَانَت مُنْحَنِيَةً بِقَدْرِ مَا يَسْتَقْبِلُونَ الْكَعْبَةَ وَهُم يُصَلُّونَ إلَيْهَا وَإِلَى جِهَتِهَا أَيْضًا.
فَإِذَا بَعُدَ النَّاسُ عَنْهَا: كَانُوا مُصَلّينَ إلَى جِهَتِهَا، وَفم مُصَلُّونَ إلَيْهَا أَيْضًا.
وَلَو كَانَ الصَّفُّ طَوِيلًا يَزِيدُ طُولُهُ عَلَى قَدْرِ الْكَعْبَةِ: صَحَّتْ صَلَاتُهُم بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِن كَانَ الصَّفُّ مُسْتَقِيمًا حَيْثُ لَمْ يُشَاهِدُوهَا.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَو سَارَ مِنَ الصُّفُوفِ عَلَى خَطٍّ مُسْتَقِيمٍ إلَيْهَا لَكَانَ مَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِهَا خَارِجًا عَن مَسَافَتِهَا.
فَمَن تَوَهَّمَ أَنَّ الْفَرْضَ أَنْ يَقْصِدَ الْمُصَلِّي الصَّلَاةَ فِي مَكَانٍ لَو سَارَ عَلَى خَطٍّ مُسْتَقِيمٍ وَصَلَ إلَى عَيْنِ الْكعْبَةِ فَقَد أخْطَأَ … فَإِنَّ الْأُمَّةَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الصَّفِّ الْمُسْتَطِيلِ الَّذِي يَزِيدُ طُولُهُ عَلَى سَمْتِ الْكَعْبَةِ بِأضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ، وَإِن كَانَ الصَّفُّ مُسْتَقِيمَا لَا انْحِنَاءَ فِيهِ وَلَا تَقَوُّسَ.
فَالْمَقْصُودُ: أَنَّ مَن صَلَّى إلَى جِهَتِهَا فَهُوَ مُصَلٍّ إلَى عَيْنِهَا، وَاِن كَانَ لَيْسَ عَلَيْهِ أنْ يَتَحَرَّى مِثْل هَذَا.
وَلَا يُقَالُ لِمَن صَلَّى كَذَلِكَ أنَّهُ مُخْطِئٌ فِي الْبَاطِنِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ؛ بَل هَذَا مُسْتَقْبِلٌ الْقِبْلَةَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أمِرَ بِهِ؛ وَلهَذَا لَمَّا بَنَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَسَاجِدَ الْأمْصارِ كَانَ فِي بَعْضِهَا مَا لَو خَرَجَ مِنْهُ خَطٌّ مُسْتَقِيمٌ إلَى الْكَعْبَةِ لَكَانَ مُنْحَرِفًا، وَكَانَت صَلَاةُ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ جَائِزَة بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.