بِمَوْجُودِهِ عَن وُجُودِهِ، وَبِمَعْبُودِهِ عَن عِبَادَتِهِ، وَبِمَشْهُودِهِ عَن شَهَادَتِهِ، وَبِمَذْكُورِهِ عَن ذِكْرِهِ، فَيَفْنَى مَن لَمْ يَكُنْ، وَيَبْقَى مَن لَمْ يَزَلْ.
فَهَذَا حَالُ مَن عَجَزَ عَن شُهُودِ شَيْءٍ مِن الْمَخْلُوقَاتِ إذَا شَهِدَ قَلْبُهُ وُجُودَ الْخَالِقِ، وَهُوَ أَمْرٌ يَعْرِضُ لِطَائِفَةِ مِن السَّالِكِينَ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: فَهَذَا حَالُ النَّبِيِّينَ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَهُوَ أَنْ يَفْنَى بِعِبَادَةِ اللّهِ عَن عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، وَبِحُبِّهِ عَن حُبِّ مَا سِوَاهُ، وَبِخَشْيَتِهِ عَن خَشْيَةِ مَا سِوَاهُ، وَطَاعَتِهِ عَن طَاعَةِ مَا سِوَاهُ، وَبِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ عَن التَّوَكُّلِ عَلَى مَا سِوَاهُ، فَهَذَا تَحْقِيقُ تَوْحِيدِ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهُوَ الْحَنِيفِيَّةُ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ.
وَيَدْخُلُ فِي هَذَا: أَنْ يَفْنَى عَن اتِّبَاعِ هَوَاهُ بطَاعَةِ اللّهِ، فَلَا يُحِبُّ إلَّا للّهِ، وَلَا يُبْغِضُ إلَّا للّهِ، وَلَا يُعْطِي إلَّا للّهِ، وَلَا يَمْنَعُ إَلَّا للّهِ، فَهَذَا هُوَ الْفَنَاءُ الدِّينِيُّ الشَّرْعِيُّ، الَّذِي بَعَثَ اللّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتبهُ. ٢/ ٣١٣ - ٣١٤، ٣/ ١١٨ - ١١٩
* * *
(تحقيق القول في رؤية اللّه تعالى)
٢٥٦ - اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ أَحَدًا مِن الْمُؤْمِنِينَ لَا يَرَى اللهَ بِعَيْنِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يَتَنَازَعُوا إلَّا فِي النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- خَاصَّةً، مَعَ أَنَّ جَمَاهِيرَ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ بِعَيْنِهِ فِي الدُّنْيَا، وَعَلَى هَذَا دَلَّت الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ الثَّابِتَةُ عَن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَالصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَلَمْ يَثْبُتْ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا عَن الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَمْثَالِهِمَا أَنَّهُم قَالُوا: إنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ؛ بَل الثَّابِتُ عَنْهُم إمَّا إطْلَاق الرُّؤيَةِ، وَإِمَّا تَقْيِيدُهَا بِالْفُؤَادِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِن أَحَادِيثِ الْمِعْرَاجِ الثَّابِتَةِ أَنَّهُ رَآه بِعَيْنِهِ.
وَقَوْلُهُ: "أَتَانِي الْبَارِحَةَ رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ" الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ التّرْمِذِيُّ