أَمْرِهِ مَا اسْتَدْبَرَ؛ أَيْ: لَو كُنْت السَّاعَةَ مُبْتَدِئًا الْإِحْرَامَ لَمْ أَسُق الْهَدْيَ وَلَأَحْرَمْت بِعُمْرَةٍ أَحِلُّ مِنْهَا.
وَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُخْتَارَ لِمَن قَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَحَدُ أَمْرَيْنِ:
أ- إمَّا أَنْ يَسُوقَ الْهَدْيَ و (١) يَتَمَتَّعَ تَمَتُّعَ قَارِنٍ.
ب- أَو لَا يَسُوقُ الْهَدْيَ وَيتَمَتَّعُ بِعُمْرَةٍ وَيَحِلُّ مِنْهَا.
ثُمَّ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إنَّ الَّذِي اخْتَارَهُ اللهُ لِنَبِيِّهِ هُوَ أَفْضَلُ الْأَمْرَيْنِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ -صلى الله عليه وسلم-: "لَو اسْتَقْبَلْت مِن أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمْ أفعَلْ ذَلِكَ": فَهُوَ حُكْمٌ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطٍ عُدِمَ عِنْدَ عَدَمِهِ، فَمَا اسْتَقْبَلَ مِن أَمْرِهِ مَا اسْتَدْبَرَ، وَقَد اخْتَارَ اللهُ تَعَالَى لَهُ مَا فَعَلَ، وَاخْتَارَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَقْبِلْ مَا اسْتَدْبَرَ.
وَلَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ الشَّيْءُ أَفْضَلَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مُطْلَقًا.
وَلَكِنَّ هَذَا بَيَّنَ أَنَّ الْمُوَافَقَةَ إذَا كَانَ فِي تَنْوِيعِ الْأَعْمَالِ تَفَرُّقٌ وَتَشَتُّتٌ: هُوَ أَوْلَى مِن تَنْوِيعِهَا (٢).
فَأَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَهُوَ أَتْبَعُهَا لِلسُّنَّةِ وَأَصَحُّهَا فِي الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ مَا ذَكَرْنَاهُ: أَنَّ مَن قَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مُرِيدًا لِلْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي تِلْكَ السَّفْرَةِ: فَالسُّنَّةُ لَهُ التَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ (٣)، ئُمَّ إنْ سَاقَ الْهَدْيَ لَمْ يَحِلّ مِن إحْرَامِهِ، وَلَكِنَّ إحْرَامَهُ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ أَوَّلًا قَبْلَ الطَّوَافِ وَالسَّعْي أَفْضَلُ لَهُ مِن أَنْ يُؤَخِّرَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ إلَى مَا بَعْدَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ.
(١) في الأصل: (أَوْ)، ولعل المثبت هو الصواب؛ لأنه ذكر أمرين، وإذا جعلناها (أو) أصبحت ثلاثة أمور، ولا يستقيم المعنى بها أيضًا.
(٢) والمعنى: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اختار القران لا لأنه الأفضل، بل لينوع في العبادات، والفعل أقوى من القول، ولكن حينما رأى أن قلوبهم بدأت تتغير، وامتنع بعضهم من الفسخ: أحبَّ لو أنه لم يسق الهدي وتمتع لئلا يسري الشقاق والخلاف بينهم.
(٣) وهو يشمل التمتع والقران.