-إذَا كَانُوا بِمَكَّةَ- لَمْ يَكُونُوا يَعْتَمِرُونَ مِن مَكَّةَ؛ بَل كَانُوا يَطُوفُونَ وَيحُجُّونَ مِنَ الْعَامِ إلَى الْعَامِ، وَكَانُوا يَطُوفُونَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِن غَيْرِ اعْتِمَارٍ: كَانَ هَذَا مِمَّا يُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ أَنَّ الْمَشْرُوعَ لِأَهْلِ مَكَّةَ إنَّمَا هُوَ الطَّوَافُ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَفْضَلُ لَهُم مِن الْخُرُوجِ لِلْعُمْرَةِ؛ إذ مِن الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَتَّفِقَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَجَمِيعُ أَصْحَابهِ عَلَى عَهْدِهِ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْمَفْضُولِ وَتَرْك الْأَفْضَلِ، فَلَا يَفْعَلُ أَحَدٌ مِنْهُم اَلْأَفْضَلَ وَلَا يُرَغِّبُهُم فِيهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، فَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ مِن أهْلِ الْإِيمَانِ.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أنَّ الْمُسْلِمِينَ قَد تَنَازَعُوا فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ لِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورينِ لِلْعُلَمَاءِ.
وَمَعَ هَذَا فَالْمَنْقُولُ الصَّرِيحُ عَمَّن أَوْجَبَ الْعُمْرَةَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتابِعِينَ لَمْ يُوجِبْهَا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ.
قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ: كَانَ ابْن عَباسٍ يَرَى الْعُمْرَةَ وَاجِبَةً ويقُولُ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ عُمْرَةٌ إنَّمَا عُمْرَتُكُمْ طَوَافُكُمْ بِالْبَيْتِ.
وَكَلَامُ هَؤُلَاءِ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ يَقْتَضِي أَنَّهُم كَانُوا لَمْ يَسْتَحِبُّوهَا لِأَهْلِ مَكَّةَ فَضْلًا عَن أَنْ يُوجِبُوهَا (١).
وَلهَذَا لَمْ يَكُن بُدٌّ مِن أَنْ يَجْمَعَ فِي نُسُكِهِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ حَتَّى يَكُونَ قَاصِدًا لِلْحَرَمِ مِنَ الْحِلِّ؛ فَيَظْهَرُ فِيهِ مَعْنَى الْقَصْدِ إلَى اللهِ وَالتَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِهِ وَحَرَمِهِ، فمَن كَانَ بَيْتُهُ خَارجَ الْحَرَمِ فَهُوَ قَاصِدٌ مِنَ الْحِلِّ إلَى الْحَرَمِ إلَى الْبَيْتِ.
وَأَمَّا مَن كَانَ بِالْحَرَمِ -كَأَهْلِ مَكَّةَ- فَهُم فِي الْحَجِّ لَا بُدَّ لَهُم مِنَ الْخُرُوجِ إلَى عَرَفَاتٍ، وَعَرَفَاتٌ هِيَ مِنَ الْحِلِّ، فَإِذَا فَاضُوا مِن عَرَفَاتٍ قَصَدُوا حِينَئِذٍ الْبَيْتَ مِنَ الْحِلِّ، وَلهَذَا كَانَ الطَّوَافُ الْمَفْرُوضُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ التَّعْرِيفِ وَهُوَ
(١) قال الشيخ في الرد على مَن أوجَب الْعُمْرَة عَلَى أهْلِ مَكَّةَ: قَوْلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ. (٢٥٨)