فَأَمَّا كوْنُ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ أَفْضَلَ مِنَ الْعُمْرَةِ لِمَن كَانَ بِمَكَّةَ: فَهَذَا مِمَّا لَا يَسْتَرِيبُ فِيهِ مَن كَانَ عَالِمًا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ وَأئِمَّتِهَا؛ وَذَلِكَ أَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ مِن أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرُبَاتِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ -صلى الله عليه وسلم-.
وَقَد قَالَ تَعَالَى لِخَلِيلِهِ إمَامِ الْحُنَفَاءِ الَّذِي أَمَرَهُ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ وَدَعَا النَّاسَ إلَى حَجِّهِ: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥)} البقرة: ١٢٥ ..
قَدَّمَ الْأَخَصَّ بِالْبِقَاعِ فَالْأَخَصَّ، فَقَدَّمَ الطَّوَافَ لِأنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ثُمَّ الْعُكُوفَ لِأَنَّهُ يَكونُ فِيهِ وَفِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي يُصَلِّي الْمُسْلِمُونَ فِيهَا الصَّلَاةَ الْمَشْرُوعَةَ وَهِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ جَمَاعَةً، ثُمَّ الصَّلَاةَ لِأنَّ مَكَانَهَا أَعَمُّ.
وَمِن خَصَائِصِ الطَّوَافِ: أنَّه مَشْرُوعٌ بِنَفْسِهِ مُنْفَرِدًا أَو فِي ضِمْنِ الْعُمْرَةِ وَفِي ضِمْنِ الْحَجِّ، وَلَيْسَ فِي أعْمَالِ الْمَنَاسِكِ مَا يُشْرَعُ مُنْفَرِدًا عَن حَجّ وَعُمْرَةٍ إلَّا الطَّوَافَ.
ويُسْتَحَبُّ أَيْضًا الطَّوَافُ فِي أثْنَاءِ الْمُقَامِ بِمِنَى ويُسْتَحَبُّ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ عُمُومًا.
وَأَمَّا الِاعْتِمَارُ لِلْمَكِّيِّ بِخُرُوجِهِ إلَى الْحِلِّ: فَهَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَطُّ إلَّا عَائِشَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَأْمُرْهَا بِهِ؛ بَل أَذِنَ فِيهِ بَعْدَ مُرَاجَعَتِهَا إيَّاهُ.
فَأَمَّا أَصْحَابُهُ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ حَجَّةَ الْوَدَاعِ كُلُّهُم مِن أَوَّلهِمْ إلَى آخِرِهِمْ فَلَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنْهُم لَا قَبْلَ الْحَجَّةِ وَلَا بَعْدَهَا لَا إلَى التَّنْعِيمِ وَلَا إلَى الْحُدَيْبِيَةِ وَلَا إلَى الْجِعْرَانَةِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْعُمْرَةِ. وَكَذَلِكَ أَهْلُ مَكَّةَ الْمُسْتَوْطِنِينَ لَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنْهُم إلَى الْحِلِّ لِعُمْرَةٍ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ لِجَمِيعِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ سُنَّتَهَ وَشَرِيعَتَهُ.
فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِين كَانُوا بِمَكَّةَ مِن حِينِ بُعِثَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلَى أَنْ تُوُفِّيَ