عَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ عَامَّةً؛ بَل قَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُجَاوَرَةِ: فَكَرِهَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَاسْتَحَبَّهَا مَالِكٌ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا؛ وَلَكِنَّ الْمُرَابَطَةَ عِنْدَهُم أفْضَل مِنَ الْمُجَاوَرَةِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْن السَّلَف (١). ٢٧/ ٢٤
٣٢٩٧ - وَأَمَّا قَوْلُهُ: "مَن زَارَ قَبْرِي فَقَد وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي" وَأَمْثَالُ هَذَا الْحَدِيثِ مِمَّا رُوِيَ فِي زِيارَةِ قَبْرِهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلَيْسَ مِنْهَا شَيءٌ صَحِيحٌ، وَلَمْ يَرْوِ أَحَدٌ مِن أَهْلِ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ مِنْهَا شَيْئًا.
وَقَد كَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلَ: زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-.
قَالُوا: لِأنَّ لَفْظَ الزّيَارَةِ قَد صَارَتْ فِي عُرْفِ النَّاسِ تَتَضَمَّنُ مَا نُهِيَ عَنْهُ، فَإِنَّ زَيارَةَ الْقبُورِ عَلَى وَجْهَيْنِ: وَجْهٌ شَرْعِيٌّ وَوَجْهٌ بِدْعِيّ.
فَالزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ: مَقْصُودُهَا السَّلَامُ عَلَى الْمَيِّتِ وَالدُّعَاءُ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ نَبِيًّا أَو غَيْرَ نَبِيٍّ، وَلهَذَا كَانَ الصَّحَابَة إذَا زَارُوا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَيَدْعُونَ لَهُ ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ وَلَمْ يَكُن أَحَدٌ مِنْهُم يَقِفُ عِنْدَ قَبْرِهِ لِيَدْعُوَ لِنَفْسِهِ.
وَلهَذَا اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَلِئم قَبْرًا. مِن قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَلَا يَتَمَسَّحُ بِهِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ الصَّلَاةُ عِنْدَهُ وَلَا قَصْدُهُ لِلدُّعَاءِ عِنْدَهُ أَو بِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ كَانَت مِن أَسْبَابِ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ.
وَهَذِهِ الْأُمُورُ وَنَحْوُهَا هِيَ مِن "الزّيَارَةِ الْبِدْعِيَّةِ" وَهِيَ مِن جِنْسِ دِينِ النَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الزَّائِرِ أَنْ يُسْتَجَابَ دُعَاؤُهُ عِنْدَ الْقَبْرِ، أَو أَنْ يَدْعُوَ الْمَيِّتَ ويسْتَغِيثَ بِهِ وَيطْلُبَ مِنْهُ، أَو يُقْسِم بِهِ عَلَى اللهِ فِي طَلَبِ حَاجَاتِهِ وَتَفْرِيجِ كُرُبَاتِهِ.
وَلهَذَا اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الدِّينِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَو نَذَرَ السَّفَرَ إلَى زِيَارَةِ "قَبْرِ الْخَلِيلِ"
(١) قال في موضع آخر: كَانَ الصَّالِحُونَ يَتَنَاوَبُونَ الثُّغُورَ لِأجْلِ الْمُرَابَطَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ فَإِنَّ الْمُقَامَ بِالثُّغُورِ لِأَجْلِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ أَفْضَلُ مِن الْمُجَاوَرر بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، مَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. (٢٧/ ٥١)